عازف البيانو المنفرد: عن «السوليست» والعزف الإفراديأ.د. غزوان الزركلي
لن أبدأ بكلمات يمكن لأي قارئ استخلاصها من مرجع أو قاموس موسيقي. ومن نافل القول أن العازف المنفرد هو الموسيقي الذي يؤدي وحده على آلته (أو بالمقابل المغني الذي يعتمد حنجرته «آلةً» موسيقية) عملاً فنياً محدداً. أما حينما لا يكون العازف منفرداً، فهو يتحرك ضمن مجموعة تتراوح ما بين عازفين اثنين إلى حوالي عشرين عازفاً، وضمن تشكيلات مختلفة (تسمى «موسيقى الحجرة»). ومن ثمَّ يصبح هذا المؤدي منفرداً مرةً أخرى حينما «يجابه» أوركسترا (فرقة موسيقية كثيرة العدد نسبياً) تتسامى في الكبر لتضم جميع الآلات الموسيقة السيمفونية المعروفة. يجري الحديث تحديداً عن الموسيقى الكلاسيكية الأوربية، ونختار مثالاً للأداء المنفرد عازف آلة البيانو، هذه الآلة التي لعبت دوراً مهماً عبر قرون، تطورت فيها من جهاز متواضع القدرات، إلى آلة تثبت نفسها في أعظم الصالات، عبر إمكانات فيزيائية وتعبيرية تستطيع إصدار أوضح الأصوات بأرق التفاصيل الأدائية، بالإضافة إلى مجاراتها للأوركسترا في الأعمال المسماة بالـ «كونشيرتو» التي تكون مكتوبة لآلة منفردة بمصاحبة الأوركسترا. أما تقاليد العزف المنفرد فهي موجودة في جميع الثقافات الموسيقية في العالم. هي تعبير عن الذات يقوم به شخص واحد ممثلاً «جموع» الأشخاص المنفردين، كل واحد لذاته. وكل واحد من هؤلاء هو في الوقت نفسه أيضاً نواة العائلة والجماعة والشعب والأمة والإنسانية برمتها. كل لذاته وكل الذوات في آن معاً موجهة إلى جميع الأفراد خارج وجودها الشخصي، وإن فكرنا قليلاً نصل إلى نتيجة مفادها أن هذا النوع من «العزلة» يسم بالدرجة الأولى مجتمع «الفرادى». إن معنى «الفرادى» ثابت منذ الأزل، وسيبقى إلى الأبد ما دام الإنسان... المتحول هو علاقة الفرد بالجماعة (البيانو بالآلات المتفرقة الأخرى وبالأوركسترا السيمفونية)، مثلاً حين تصبح الجماعة هي اللبنة التي يبنى بها المجتمع، وليس الفرد الواحد الذي ـ كما ذكرنا ـ لا ولن يفقد أهميته المستقلة بغض النظر عن البنية الاجتماعية وعن العصر الذي يعيش فيه. ومن هنا نستطيع أن نتوقف عند ظاهرة أوربية، فنتفكّر الدور المحدث لتشكيلة فنية موسيقية تضم الذات والمجتمع في الوقت نفسه، ممثلين بعازف منفرد، وفرقة سيمفونية أصبحت مع مرور الزمن (حوالي أربعة قرون) بالغة الضخامة. أقول بالغة الضخامة لأن عدد عازفيها قد يصل إلى أكثر من مائة، أي أنها مثلاً تتخطى بكثير حدود «التخت» الذي يحاور المغني المنفرد في ثقافتنا التراثية الموسيقية. إن الفرقة السيمفونية تمثل عدداً بقدر ما تمثل عدّة واختلافات (منسجمة مع بعضها البعض الآخر) تحكي عن نفسها بوساطة الآلات المتعددة والمتباينة في أدوارها الموسيقية، وتنسج أفكاراً فنية متناقضة ومتصارعة ومتصالحة، وذلك بحسب المدارس الموسيقية التي تنتمي إليها، والتي هي نتاج فكري أيضاً لحقب التاريخ الاقتصادي الأوروبية، عبر تاريخ أوربة الحديث من جهة، ومن جهة أخرى نتاج فني إنساني مستمر ما استمرت الحياة، ينقل المعلومة الإنسانية فنياً من جيل إلى آخر. هذا ما أريد بشكل خاص أن ألفت إليه نظر القارئ الكريم، الذي لا شك يمتلك ناصية أولويات التربية الثقافية- الموسيقية. إنه العلاقة الموجودة ما بين الظروف الاجتماعية لمنطقة جغرافية وبين نتاجها الثقافي- الموسيقي. إن آلة البيانو الحالية ـ التي وصلت إلى مستواها الصناعي الأدائي الفائق منذ ما يقرب القرن ونصف القرن ـ هي نتاج ذلك المجتمع الأوروبي الذي يريد الفرد فيه الحفاظ على استقلاليته (إنسانيته). وإن الجهاز الأوركسترالي العملاق الذي وصل في زمن المؤلف الموسيقي الألماني ريتشاد فاغنر (1813 ـ 1883) تقريباً إلى حدوده القصوى، هو أيضاً نتاج ذلك المجتمع، ينضوي تحت ذلك «الصراع» ما بين هذا وذاك. ونعود لنقول بأن شكل التعبير الإفرادي (عازف منفرد، مغني: سولو) هو موضوع أزلي باقٍ ما بقي الإنسان من ناحية، كما أن شكل التعبير الجماعي (فرقة: أوركسترا) باق ما بقيت الجماعة من ناحية أخرى. ونقول بأن الفن قد اخترع أنواعاً فنية (الكونشرتو) ـ وذلك في حقبة تاريخية معينة وفي مجتمعات محددة ـ مازالت تمكِّن من طرح موضوع علاقة الفرد بالجماعة، عن طريقة المعالجة الفكرية-الفلسفية له، التي ولدت أعمالاً فنية رائعة الجمال والإتقان. إن مجال العزف «المنفرد بآلة واحدة» المنفرد «بالذات» هو فرصة نادرة ـ تتسلح بأدوات الاحتراف وبقوانين الجمال ـ للحديث مع «الآخر»، ولإيصال المعلومة البشرية لتجربة إنسانية عبر نوع (شكل) فني محدد ينتقل في تبسيطه وتركيبه وفي تخصيصه وتعميمه ما بين مختلف الأحاسيس والمشاعر ( فرحة وحزينة، متفائلة ومتشائمة، مقدمة ومتريثّة، جريئة وخائفة ) المؤلفة لأفكار موسيقية يساعد تذوقها الإنسان في حياته المؤقتة العابرة، بشد أزره في مواجهة الأحداث، بشحذ فكرة وتقوية وعيه، بصقل روحه وتهذيب نفسه. الحياة عبر الفن الموسيقي الآلي خصوصاً هي حياة «افتراضية» بأحداث افتراضية، وتدخل في خبايا النفس الإنسانية، لتلج إلى قضاياها النفسانية العالقة، وهي حياة حقيقية توصل إلى نتائج حقيقية، حينما «تحرر» داخل الإنسان عبر تصفية أغواره، وعبر مصالحته مع ذاته، بعد خوضه تلك التجربة الإنسانية الافتراضية (والواقعية في آن معاً). إن هذه التجربة الفنية الموسيقية توصل المعلومة الذاتية (الانفرادية) للبشر جميعهم (فرادى ومجموعات)، وقبل كل شيء تحاول حفظها لتتمكن من الوجود حتى بعد غياب موصلها، وانتهاء فترة إقامته على هذه الأرض.