لقد عكست نتائج الانتخابات الإسرائيلية، بشكل حقيقي وبارز، إرادة المواطنين الإسرائيليين: اليهود والعرب كذلك. وتثبت هذه النتائج، أن بنيامين نتنياهو هو أكثر قادة إسرائيل الحاليين فهمًا لمشاعر"شعبه"وبنيته السياسية، ودراية بكيف يضمن بقاء هذه الجموع داعمة له ولحزبه. إنّه الفائز الأكبر في هذه الانتخابات، التي حاول كثيرون أن يوهمونا أنّها ستفضي إلى الإطاحة بحكم الليكود وحلفائه من الأحزاب اليمينية المتشددة، لتدشّن حقبة جديدة يقودها حزب المعسكر الصهيوني برأسيه- بوجي هيرتسوغ وتسيبي ليفني.
لفترة قصيرة من الوقت تولّدت في المشهدية السياسية الإسرائيلية ظروف بررت للكثيرين ما اعتراهم من مشاعر فرح مبكّر، وسوّغت لهم دواعي لإيمانهم بأن تغيير الحكم في إسرائيل بات أقرب من بزوغ صبح، فكثيرون ممن صمتوا في الجولات الانتخابية السابقة بدأوا يجاهرون بمواقفهم المعادية لسياسات بنيامين نتنياهو، بعض هؤلاء يُحسبون، في المجتمع الإسرائيلي، على النخب العسكرية والاقتصادية والأكاديمية، برز من بينهم نحو المائتين من كبار الجنرالات وضباط الجيش وأذرع الأمن المختلفة، الذين بادروا ونشروا نداءً واضحًا حثوا فيه الشعب في إسرائيل أن لا يدعم نتنياهو وحلفاءه لأنهم يشكلون خطرًا على الدولة ومستقبلها. هذا علاوة على ما نشر في وسائل الاعلام المختلفة عن عدم إحراز حكومة نتنياهو أي تقدم سياسي على جميع الجبهات وأهمها مع الفلسطينيين، وعن تدهور أوضاع أكثرية المواطنين الاقتصادية. كل هذه العوامل أدّت إلى خلق أجواء من التفاؤل غير الحذر عند البعض، التي غذّتها، كذلك، الأزمة التي افتعلها نتنياهو مع الإدارة الأمريكية واحتسبها المتفائلون عنصرَ إضعاف له، جاهلين انعكاساتها الحقيقية في عالم الغريزة الشعبية الاسرائيلية، حيث صرفت في أسواق "الدهماء والرويبضة"، كتحدٍّ بطولي سافر لشخص الرئيس أوباما وحكمه.
لا تستهدف هذه المقالة الإحاطة بكل ما واكب هذه الانتخابات من تطورات وتداعيات، لكنني أود التأكيد فيها على أن انتصار نتنياهو الكبير وارجاع الليكود إلى سدة الحكم، هو النتيجة الطبيعية التي تتماهى مع ما تؤمن به الأكثرية الساحقة من المواطنين اليهود، وتعكس عالم القيم السائدة بين هذه الأكثرية وما تنادي به من حلول سياسية. بمعنى آخر، فإن خسارة نتنياهو وأحزاب اليمين، لو حصلت، في الظروف والشروط الإسرائيلية السائدة، كانت هي الاحتمال غير الطبيعي والشاذ. ولذلك، نحن، الذين نعيش في هذه الأجواء ونواجه ما تخلّفه علينا من مخاطر يومية حقيقية مباشرة، تعاملنا مع واقعنا بحذر وأمل، ولم نتوهّم حصول المعجزات، خاصة بعد أن بدأت دعاية حزب "المعسكر الصهيوني"، وهو المعارضة الداعية الى خلع نتنياهو، تنافس دعاية أحزاب اليمين بشعارات لا أقل يمينية وبؤسًا وتعتمد على"اللاءات" سياسةً ووسيلةَ إقناعٍ لجمهور محشو بعنصرية سامة ولا يجيد أصلًا، من الأبجدية الّا "اللام أليف" ولغة السكاكين والحقد.
كان فوز نتنياهو الساحق بعكس جميع التوقعات وضد كل الاحتمالات، كما صرح هو و"تشاوف"، ففي العالم تمنّت حكومات عديدة خسارته، ونشطت في إسرائيل جمعيات وشخصيات اعتبارية، في محاولات لإقناع المصوتين اليهود بأن استمراره في قيادة دفة الدولة يعرضها للخطر؛ لكن كل تلك المحاولات لم تشفع، لأن أكثرية الشعب في إسرائيل أصبحت عمياء، ومعظمه غدا مخدّرًا ويلهث وراء "سوبرمانه". فالجموع الهائجة التي صوتت له لم تكترث إن كان بطلها مشبوهًا عند الشرطة، أو مغامرًا طائشًا وخطيرًا، أو لم يحقق لصالحهم هدفًا واحدًا، فهو يبقى عندهم المنقذ والأمل. هذا، برأيي، أخطر ما عنته نتائج هذه الانتخابات،التي فيها أقفلت علينا، نحن العرب، دائرة الخطر وباتت مركباتنا أقرب إلى نهاية المنزلق الذي كان قبل سنوات خطيرًا، فصار اليوم بيدر ما ينتظرنا من قدر أو عدم.
لست ممن يتعزون بما يقوله البعض مطمئنين، بأن فوز نتنياهو سيدفع أمريكا والدول الأوروبية لتفعيل ضغوطات غير مسبوقة على إسرائيل، ولذلك يدعونا هؤلاء ألّا نكره نتائج الانتخابات، فقد تكون خيرًا علينا! بنظري سيبقى ذلك توقّعًا لا تدعمه تجربة، وتكهّنًا جافًا يحتاج لكثير من الانتظار ولصلوات "الاستسقاء".
أما في الواقع فنتائج هذه الانتخابات سوف تؤدي إلى زرع مزيد من الحواجز التي ستبعد أي فرص حقيقية لإنهاء الاحتلال الاسرائيلي واقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، ولسوف تتدهور أحوال الفلسطينيين بشكل مأساوي قابل للانفجار، لن يمنع تداعياته رشد القيادة الفلسطينية وصبرها، ولا أمل شعب ينام على قهر ويصحو على نشيد للسفر!
أما التحدي الأكبر فيبقى، برأيي، ما سيواجهه المواطنون العرب في إسرائيل، لا سيّما بعد أن باتت مخططات الأحزاب اليمينية التي ستحكم في السنوات القادمة، تجاه الأقلية العربية، سافرة وتنذر، إن لن يُتصدى لها بحكمة ونجاعة، بنتائج وخيمة.
الجماهير العربية تصرّفت بمسؤولية رفيعة، فاندفعت إلى الصناديق لترفع نسبة التصويت بشكل مبهر، وأعطت أصواتها للقائمة المشتركة بدون منازع. لقد أثبتت هذه الجموع، بحسّها الوطني وبعشقها للحياة، أنها ترفض مقاطعة الانتخابات، سواء نادت إليها حركات إسلامية أو قومية، وأعلنت، بمشاركتها الجمعية، أنها تصر على أن تكون جزءًا فعّالًا في العملية السياسية وترفض إقصاءها أو الاحتواء.
إن مشاركة ٧٠٪ من أصحاب حق الاقتراع يعني كذلك أن هذه الجماهير دعمت جبهة نضالية عربية يهودية، عريضة وقيادة وضعت قضاياها المعيشية في الصدارة ومسألة بقائها في الوطن في طليعة الاهتمامات؛ فالوحدة، التي باسمها شكّلت الأحزاب والحركات العربية والاسلامية قائمتها المشتركة، عنت، عمليًا، لكل مصوت، مهما كانت خلفيته الايديولوجية والعقائدية: لنمضي معًا، عربًا ويهودًا، في جبهة واحدة، لصد خطر الفاشية، فهنا أوّلًا ومن هنا أوّلًا.
لقد شكلت نتيجة الانتخابات تحدّيًا واقعيًا كبيرًا وخطرًا حقيقيًا، وعلى قادة المشتركة أن يعملوا بشكل فوري على وضع برنامج عمل وطني للتصدي لما قد نواجهه قريبًا، فاليوم ليس هناك مثل هذا البرنامج، إلّا بعناوين عامة لا تشكّل برامج نضال ميدانية تشمل جميع الفرقاء، أو كما صرّح النائب محمد بركة على أن "نتائج الانتخابات تستوجب مشروعًا نضاليًا شعبيًا وميدانيًا لمواجهة حكومة اليمين". الفاشية هي الخطر، من سيتصدى لها وكيف؟ كفى بالتجربة واعظًا.