أخاف عندما يفيض الفرح، فَطَميُهُ خانق وقلوبنا معدّة للقلق. قنعتُ بأفراحي الصغيرة، عشت معها على ضفاف الأمل. تأهبّت دومًا لموجعات دهري والعطش، فلكم:
"ظمئتُ إلى برد الشراب وغرّني
جَدا مُزنةٍ يرجى جداها وما تجدي"
شهدتُ اليوم ميلادَ بطلٍ في فلسطين. على صهوة أمعائه اندفع كالسَّيل، كانت الأرض بصفّه وجُند الغيم رماحُه. واقفٌ على صدر الخسارة، حفرت الكرامة برقَها وصرخ الرعدُ عاليًا:
"لا يستوي داعي الضلالة والهدى
ولا حجة الخصمين حقٌ وباطلُ"
في زمن القحط، وُلدَ في أمّة العرب انتصار وهو "انتصار لكل الشعوب المجاهدة من الظلم والطغيان ومصادرة حقوق الشعوب .. صفحة مشرقة في تاريخ العرب والمسلمين" (القدس العربي يوم 24/4). فلسطين ما زالت فلسطين: ولّادة الأنبياء وأرض الخسارة والبطولات؛ لأبطالها آباء كثر، ولانتصاراتها رعاة وعروش مخلّدة ومساند.
في زمن النفط وُلِدَت في الشرق أسطورة. أما هَمَستُ في صدرك يا ابن العيسوية وقلت: انتبه! كلّهم بحاجة "لداودنا" يقارع "جولياتهم" وينتصر. هكذا ستنطق الليالي والرواية ستبلّغ بعد أن ينقضي عصر الدم. كم حذّرتك يا ابن أمك، ترفّق بقلبك ولا تنكسر، فلا لحمك لحمك ولا عظمك عظمك، من أوّل القهر صرت للعرب فارسًا وفرسًا ونهرًا. عليك الموت محظور يا سامر، فلسطين ما زالت ترتب مخادع شهدائها، لا تشوّش عليها رتابة الوعد. عش! كفاها عرسانًا زُفّوا، كما يشتهي الدود، بالأبيض.
في كل مرّة قابلتك خفت إن غابت البسمة عن وجهك، وخفت أكثر عندما كنت تضحك. أنا لا أعرف كيف يكون الأبطال؟ عنترة في الذاكرة عابس غضوب مصقول من عتمة، والمقدوني كان يضحك من قدميه وأنف سيفه. لم يبك "أخيل" ولا ابن ذي يزن. لا تضحك كثيرًا ولا تبك فأنت مولود من خصر الزمن، أسطورة أمة غفت ولا تفيق إلا بميلاد بطل، ساحر ونصر.
في كلّ زيارة كنت أجدك ناقصًا، كمن يعيد حياته لباريها بالتقسيط. راهنوا على سقوطك والهزيمة، لأنهم عرفوا أنك الفلسطيني عاشق الحياة. قامروا بكل وسيلة وحيلة، ونحن مثلهم خبرنا أن الحرب خدعة و"ابن ذي يزن" جاد بشجاعته، لكنها كانت أختًا للمراوغة والحيلة. رسمنا معًا وتواعدنا على هدف وميعاد. في كل مرّة تركتك، تقاوم، تناور، تعاند، تهادن، تهدد، تصالح، افعل ما شئت وابقَ على بسمة. خوف يزيله أمل. ننام والليلة حبلى. نفيق في حضن فجر باسم. على حدود القلب أقمنا الخيمة، فيها ولدت، كما اشتهتك أمّتك للمجد، وحياتك عندها كانت هامشًا في سفر البطل.
لتكن بطلًا إلى حين يرسب غبار هذه المعركة!
لتكن أسطورةً، ونم قليلًا، ثم أفق وعُد إلينا إنسانًا بقلب عاشق كما في حكايات البشر!
أين الحقيقة؟ في هذا العرس حاصرني هذا الفيض من المجد العربي الجارف. أُشفِق على سامر اليوم وأخاف عليه. هو ابن أمه، سيبكي عندما يسقط عصفور عن شجرة في حاكورة بيته في العيسوية، ولن ينام إذا الحبيبة أعرضت عنه من حيطة أو دلال أو شفقة. قهر سامر عنجهية جهاز خطط أن لا يتراجع ولا يساوم إلا بإرجاعه ليقضي زهرة عمره وراء قضبان القهر، فعل سامر ذلك بروية عاقل وثبات مناضل وإصرار صاحب حق وقضية. لم يكن ساحرًا، خطَّ لنفسه سياج الكرامة وفراشها. تمسّك بذلك كمن يؤثر العزة على الحياة المذلّة. لم يكن واهمًا. عشق الحياة واستعدَّ لحرب فرضت عليه، واجهها بكل جاهزية حتى حافة الرحيل، ونجح بإسقاط المكيدة.لم يكن حالمًا.
سامر الذي كنت ألقاه بين بسمة وعبسة يتأهَّب كل يوم لجديد، كان خلاصة الإنسان الذي يشبه أخي وجاري ويشبهك أيضًا. إنّه واقعي حتى التراب، فلا تخبِّئوه في أساطيركم نقيضًا خارقًا وحيدًا لا يُرى ولا يلمس ولا يصل لأفعاله أحد! أفلتوه من حكايا الجن وليالي الشرق الساحرة!
أحيانًا أفكر أن وراء هذا التعلّق بسامر الأسطورة قدر من خبث وتغليف للحقيقة والواقع. فسامر هو نقيض واقعكم وهزائمكم، وهو بهذا المعنى أيضًا ليس ابن اسطورة، بل ابن فلسطين وواقعها. هو "مفخرة للعرب وللأمة الإسلامية جميعًا"... ربّما، ولكن اتركوا لنا عطرَه وخضرة الغصن الذي زرع.
أخشى من تعويم سامر، سريعًا سيطير منّا، وسريعًا سيصير كالأثير. بعضهم عن قصد يحيله مشاعًا على أمل أن تقلَّ قيمته هنا في فلسطين وفي القدس تحديدًا، ليصبح سهمًا في حسابات العرب، كل العرب والمسلمين. لمرة سأكون "فلسطيني" الأنانية. سامر لنا، لكل مناضل من أجل حرية خالصة، وإنسانية ناصعة، وكرامة حقة وعزة لا تعرف إلا التراب فراشًا يدوم. سامر مناضل كثير الإنسانية، عاشق يفيض عنادًا، مفاوض شديد النباهة، مناور حذق الاختيار. هو نقيض المستحيل، هو الممكن الذي يجب أن نحبَّه.
كنت أتمنى لو أستطيع نشر ما تسلمته من رسائل لتروا معي كم كان سامر قريبًا من الأرض. فرحتُ بما كُتب، فحتى للدمع كان طعم أشهى. الناس عطشى للفرح الحقيقي. فرح الحياة وفرح الناس البسطاء الذي يكون صغيرًا وليس لفرح الأساطير.
"مبروك لسامر نصرَه، أرجوك أشكره باسمي على أنه أعاد للنضال قيمة المعنى والإيمان بالأمل"- هكذا كتبت لي محرّرة جريدة "الاتحاد" الحيفاوية العزيزة، عايدة توما سليمان. فالنصر أولًا لسامر لأنه عاش ليعطي للنضال قيمة المعنى والإيمان بالأمل.هذه هي الحقيقة والعبرة.