ما من شك أن المأساة التي يعانيها مخيم اليرموك مأساة بكل المعايير ولكنها جزء من مأساة الشعب السوريّ الذي يتعرّض لعدوان بشع ومنذ سنوات ومن قوى الظلام أجمع في العالم، وإذا كان هنالك ما زال أحد يعتقد أن حريّة وكرامة السوريّين هي القضيّة ف"الله يكون بعونه".
لكن هذه المأساة والتي عمرها من عمر العدوان على سوريّة لم تستقطب هذا الحراك "الواسع" اليوم تضامنا مع المخيم والغريب أن الحراك يشير إلى الحصار ويترك الفاعل "ضمير مستتر"، ولذا فإن الأمر يثير مجموعة من التساؤلات التي لا بدّ من طرحها.
ما الذي حدا ممّا بدا حتى بدأت في الآونة الأخيرة تفيض الدموع على أهلنا في مخيّم اليرموك للاجئين الفلسطينيين في أطراف الشام؟!
لماذا كان شرعيّا حينها وعندما اندست فئران العصابات في المخيم متخذة من أهله دروعا وورقة لإحراج القيادة السوريّة والجيش العربيّ السوريّ، لماذا كان الصمت وكذلك من قيادات فلسطينيّة سيّد الموقف؟!
لا بل هل من مصدّق أنه لم تكن أياد فلسطينيّة من التي "بصقت" في البئر السوريّة التي طالما روت عطشها، مساهمة في جعل المخيم قاعدة وحاضنة لانطلاق عصابات الجهلة التكفيريّين ؟!
سوريّة وشعبها وجيشها وقياداتها لا يستأهلون منّا نحن الفلسطينيين إلا كل الخير، ومع هذا حسب البعض "منّا" وبالذات أولئك الذين صادروا الله "واستغفره استغفارا كبيرا" أن سوريّة بقيادتها القوميّة إلى زوال فضاع ما تبقى من الوطنيّ عندهم، بعد أن كان القوميّ عندهم انتهى "من زمان" أمام الدينيّ التكفيريّ،لعلّ يكون لهم في "الكعكة" نصيبا ويكسبون به أجرا عند الله المتخيّل لديهم!
هذه الدموع التي تُذرف اليوم هي دموع تماسيح ليس إلا وما "سفكها" الآن إلا وقد أسقط الشعب السوري بغالبيته وجيشه وقيادته كل المعادلات، لذا كان وما زال زجّ الفلسطينيّين في الأزمة السوريّة الزندقة بعينها، وما صحّ طرحه حينها يصحّ اليوم ولن تغيّر منه شيئا دموع التماسيح هذه ومهما غزُرت. ولذا يصحّ هذه الأيام ما رأيناه في تلك الأيام لنعود ونقول وبأكثر قناعة: "زج اللاجئين الفلسطينيين في الأزمة السوريّة هو الزندقة بعينها (2)"
المحاولات المتكررة لزجّ الفلسطينيين في الأزمة السوريّة هي محاولات دنيئة ولم تجيء بمحض صدفة وإنما ثمرة مخطط وليد تفكير تآمريّ جهنمي مدروس. الموقف السوريّ قيادة وغالبيّة عظمى شعبا من القضيّة الفلسطينيّة، والقناعة السائدة على الأقل عربيّا وإسلاميّا شعبيّا وإنسانيّا تنويريّا أن سوريّة تدفع اليوم ثمن مواقفها من هذه القضيّة اللب، وبالتالي تعاطف كل من تعزّ عليهم قضيّة فلسطين مع سوريّة في دفاعها عن موقعها وموقفها وأهلها هو ورقة رابحة جدّا في يد القيادة السوريّة اكتشف عرّابو المؤامرة وأسيادهم أنه يجب إسقاطها وحرقها، هذا من ناحية أمّا من الأخرى فإن بوادر سحق هذه المؤامرة والحرب العدوانيّة على يد الجيش العربيّ السوريّ وأبعاد هذا السحق على القضيّة الفلسطينيّة، اللب الأم البوصلة، هو ورقة أربح أقضّت مضاجعهم الدافئة، كذلك يجب إسقاطها بحرقها.
حرق هذه الورقة لن يتأتى إلا إذا كان جزء من مهرها دماء الفلسطينيين في اليرموك والرمل والنيرب ولذا لا بدّ من زجّهم في الأتون، وفجّار الأرض من رؤساء وملوك وإمراء وسلاطين وشيوخ وإعلاميين يتكفلون بتحميل الجيش السوريّ وزر هذه الدماء حتّى لو أسالها فلسطينيّو مولد تكفيريو انتماء وحلفاؤهم من رُعاع أصقاع الأرض.
بغض النظر عن حيثيّات ما جرى هذه الأيام في مخيم اليرموك لهذا الجزء الذي اقتطع قاطنوه من لحمنا نحن الفلسطينيين عام 1948، لكن لنقولها على الملأ: لم يكن ليتأتى دخول الإرهابيين المخيم لولا أن تراخى البعض فيه إن لم نقل أكثر من ذلك كثيرا (!). لكن الحقيقة أنه حدث ما كنت أشرت إليه في أوائل ت. ثاني هذه السنة (2012) في مقال تحت نفس العنوان أعلاه اللهم إلا أني أضفت عليه الرقم (2) هنا، وزُجّ مخيم اليرموك على يد بعض من "ذوي القربى" في أتون الحرب القذرة على سوريّة ولكن القيادة السوريّة عرفت كيف تخرج من هذا المطبّ رغم اعتقاد البعض أنها ربّما خسرت بعض النقاط على المدى القريب.
رحم الله المناضل ناجي علّوش والذي فارقنا قبل مدّة ليس قبل أن يكشف حقيقة ما جرى في مخيم تل الزعتر في لبنان وكيف حّملت سوريّة وقيادتها وزر المذبحة والجيش العربيّ السوريّ منها براء. المحاولات المحمومة لزج الفلسطينيين في الأتون لم تولد مع دخول أدوات هذه الحرب العدوانيّة المخيم هذا الأسبوع والذي كان هدفها وما زال تل زعتر آخر لإسقاط الورقة الفلسطينيّة الرابحة في يد سوريّة قيادة وجيشا وشعبا على مدى التاريخ.
القضية الفلسطينيّة هي اللبّ من قضايا المنطقة وبالتالي اللب من الصراع العربيّ الغربيّ ورأس حربته إسرائيل، كانت وما زالت وستبقى رغم ما اعتراها سابقا ويعتريها اليوم من محاولات وأد. عرّاب وأدها كانت وما زالت الجامعة العربيّة لولا أن أزاح الشعب الفلسطيني بكل أماكن تواجده ومعه بعض الدول العربيّة القليلة مصر في عهد عبد الناصر وسوريّة في كلّ عهودها، تراب الرمس عن وجهها لتبقى حيّة وتنطلق من تحت التراب.
الشعب السوريّ لم يبخل يوما على القضية الفلسطينيّة بدماء أبنائه لا في ثورة ال36 ولا في حرب النكبة في ال48، وما زالت شواهد قبور أبنائه بدء ب-(دير الغصون- قلقيلية) مرورا ب-(سانور– نابلس) وانتهاء ب(هوشة والكساير-شفاعمرو) شهودا، ويكفي أن نذكر كذلك أن عصب الثوار الفلسطينيين في الثورة الفلسطينية الأولى عام 1929 (الكف الأخضر) كان من الشباب السوريين وأن أهم معركة خيضت في ثورة ال-36 وبشهادة مصادر صهيونيّة (بلعة) كان عصبها الشباب السوريين، وهكذا في ال-48 في معارك هوشة والكسايرواللطرون وبنات يعقوب (مشمارهيردين) وسمخ (دغانيوت).
هذا تاريخ قديم نسبيّا أما في التاريخ الحديث ففقط من هو فاقد بصر وبصيرة أو عبد يستطيع أن ينكر أن سوريّة تدفع في هذه الحرب العدوانيّة القذرة ثمن موقف قيادتها من القضيّة الفلسطينيّة، بدء بمفاوضات ما بعد حرب تشرين 1973 وعدم دخولها كامب ديفيد السادات مرورا بحروب لبنان (الفلسطينيّة) واحتضان المقاومة الفلسطينيّة رغم أن في شقّها ظهر وكأنها كما احتضن أفعى، وكل ذلك رغم ما اعترى العلاقات السوريّة الفلسطينيّة من أزمات خلال هذه الفترة، وانتهاء بدورها في وأد محاولة الوأد الأخيرة للقضيّة في قمّة بيروت ال-2002.
اللاجئون الفلسطينيّون في سوريّة هم الوحيدون من أهل الشتات الذين لم تُضع قيود حياتيّة عليهم، فتقاسم الشعب السوريّ لقمته ومكان عمله ومقعد دراسة أبنائه معهم دون منّة. عندما زرت سوريّة للمرة الأولى في العام 2000 للاشتراك في أربعين الرئيس المرحوم حافظ الأسد وأثناء تجوالي مع بعض أعضاء الوفد في الشآم احتجنا سيّارة نقل تفاجأ السائق أن يرى عربا من ال-48 في سوريّة، ولكن المفاجأة الكبرى أن حين ترجلنا رفض السائق رغم أنه كان باد عليه ضيق الحال وعلى الأقل من حال السيارة، أن رفض تلقي الإيجار وبإصرار، أمام إصرارنا من الناحية الأخرى قال: "أنا ملازم متقاعد قضيت حياتي مستعدا لدفع دمي لفلسطين فكيف سآخذ منكم ثمن هذه الخدمة؟"، ولك أن تتخيل عزيزي القاريء ما الذي أصابنا في هذا الموقف !
هذا هو وجه سوريّة المتآمَر عليه اليوم والتي تستحق منّا نحن الفلسطينيّون أكثر كثيرا من موقف في هذه الحرب العدوانيّة التي تتعرّض لها من كلّ حثالات الكرة الأرضيّة، ومع هذا أحسن أخوتنا اللاجئون الفلسطينيون في ربوعها الخيار باتخاذ موقف عدم التدخّل في هذه الحرب العدوانيّة وليس من باب ما تصح فيه التسمية "زندقة اللغة - النأي بالنفس" فلا يمكن أن يكون وطنيّ أو قوميّ أو عروبيّ بمنأى عمّا تتعرض له سوريّة بموقف على الأقل.
لا مصلحة سوريّة وبالمنطق البسيط، في هذه الحرب العدوانيّة أن تسقط شعرة طفل فلسطينيّ، ولذا فالمحاولات المحمومة هذه لزج الفلسطينيين هي الزندقة بعينها وعرّابوها هم نفس عرّابي الحرب القذرة على سوريّة ورغم دلالات الإفلاس فيها، إلا أنه على أخوتنا الفلسطينيين والسوريين قطع دابر هذا المركّب من المخطط الجهنميّ وسدّ هذا الباب على الزنادقة هؤلاء ونحن على ثقة بأنهم قادرون.
الكاتب المحامي سعيد نفاعsa.naffaa@ gmail.com
اللجنة الشعبيّة في ال48 للتضامن مع سوريّة وقيادتها الوطنيّة
أواسط كانون ثاني 2014