محمد نجيب سرور المولود بقرية "أخطاب",مركز أجا,محافظة الدقهلية,في يونيو عام 1932,والذي ترك ورائه تراثا شعريا ومسرحيا يشكل علامة بارزة في مسيرة الحركة الثقافية المصرية,إذ كانت الروافد الثقافية المختلفة تمثل لديه نهرا ًإنسانيا ًعريضا ًيغترف منه كيف يشاء
ومن دواوينه الشعرية التراجيديا الإنسانية,بروتوكولات حكماء ريش,لزوم ما يلزم,الطوفان الكبير,فارس آخر زمن,ورسائل إلي صلاح عبد الصبور,كما كان له باع كبير في النقد الأدبي والمسرحي,فبالإضافة إلى عمله الكبير(رحلة في ثلاثية نجيب محفوظ) هناك الكثير من المقالات النقدية مثل (تحت عباءة أبي العلاء) و(هكذا قال جحا) و(حوار في المسرح) و(هموم في الأدب والفن). وقام يشيد الرحال إلى وطن لا يضيع..يبلله الموت..تحضنه القبرات..تدق له السوسنات الدفوف.. ومات بغير انحناء..هذا جزء مما كتبه عصام الغازي في رثاء نجيب سرور,فهل يستحق هذا الرثاء؟ سأترك الإجابة لك عزيزي القارئ,ولكن تمهل إلى أن تقرأ هذا الحوار,الذي لم يدار. .........................................................................................................؟ ولدت في قرية صغيرة تقتات بجني مـا يزرع أهلها ومـا يربون من الدواجن والمواشي,قسوة شيخ الكُتاب قطعت علىّ الطريق إلى الأزهر,فدخلت مدرسة القرية,ولا أستطع أن أنسى تعرض والدي للضرب من عمدة القرية المستبد,وقصيدة "الحذاء" تحكى عن تلك الواقعة,والتي ملئت قلبي حقداً على الإقطاعيين وسلوكهم غير الإنساني تجاه الفلاحين. وفى قريتي عـُمدة كالإلهْ..يـُحيط بأعناقنا كالقـدرْ ..بأرزاقنا.. بما تحتنـا من حقول حـَبـالي.. يـلدن الحيـاةْ..وذاك المسـاء ..أتانـا الخفيـر ونـادى أبي..بأمر الإله !..ولبَّى أبي..ذهبنـا إليه..فلما وصـلنا..أردت الدخول..فمد الخفــير يداً من حـديد وألصقني عند باب الرواق..وقفت أزف ُّأبى بالنظــر..فألقـى السـلام..ولم يأخذ الجالسـون السـلام !..رأيت ُالإله يقــوم فيخلـع ذاك الحـذاء.. وينهـال كالسـيل فوق أبى !..لمـاذا أبي ؟..جـدِّي الضـريرْ قعيـد ُ الحصـيرْ..تحسـَّسـَني و تولـَّى الجـواب ْ..بنـي َّ.. كذا يفعل الأغنيـاء ُ بكل القرى!..كـرهت الإله..وأصبح كل ُّإله لدى بغيض َ الصـَّعرْ. ومن يومها أصبحت قضيتي الأولى هي النضال من أجل كشف الحقيقة،ووجدت أن الشعر كلمـة سهلة التكوين وسريعة الوصول,والمسرح هو الفضاء الآخر الأكثر رحابة وتأثيرا في حياة الناس,مما شجعني على ترك الدراسة بكلية الحقوق والالتحاق بمعهد التمثيل,لأتخرج منه عام 1956,لتتولد بعدها بيني وبين كبار الكُتاب والأدباء والمفكرين والمناضلين والفنانين علاقات متميزة من خلال أعمالي,وأتذكر إحدى الليالي الباردة,حين جردني جرسون "مقهى ريش" من جاكتى؛لعجزي عن سداد ثمن المشروب,على مرأى من نجيب محفوظ ويوسف إدريس,والشيخ إمام,والذي غنى لي بعدها,البحر بيضحك ليه ؟..البحر غضبان ما بيضحكش..أصل الحكاية ما بتضحكش..! ...........................................................................................................؟ بالفعل كانت بعثتى إلى الإتحاد السوفيتي لدراسة الإخراج المسرحي عام 1958 نقطة تحول في حياتي,فشخصيتي تكونت في مصر وصـُقلت في موسكو,فعلى مدار خمسة أعوام,استطعت التعرف على المدارس المختلفة في الفنون المسرحية,وعلى انتقاء ما أريده منها,وبسبب خُطبي الحماسية ضد سياسة القمع في مصر وسوريا,سُحبت منى المنحة الحكومية,ولكن إدارة جامعة موسكو منحتني منحة حزبية,ثم كان علىّ بعد ذلك أن أعود إلى مصر؛لأقوم بدوري النضالي من أجل أن تحيا مصر ويسعد شعبها. يا مصر يا وطني الحبيب ْ..يا عشَّ عصفور رمته الريحُ في عش ٍغريبْ..يا مرفئي آتٍ أنا آتٍ.. و لو في جسميَ المهزول آلافُ الجراحْ. ...........................................................................................................؟ بدأت حياتي الفنية الحقيقة مع عودتي واستهلتها عام 1965 بمسرحية "ياسين وبهية" والتي أخرجها صديقي كرم مطاوع _ تعد تلك المسرحية الشرارة الصحيحة لبداية الوجود الشرعي للغة الشعر في الدراما في المسرح المصري_ وهي الجزء الأول من ثلاثية ضمـَّت "آه يا ليل يا قمر" و"قولوا لعين الشمس" ثم توالت مسرحياتي"يا بهية وخبريني"و"آلو يا مصر",وبعدها كتبت وأخرجت مسرحية "ميرامار"_دراما نثرية مقتبسة عن رواية نجيب محفوظ_ ومسرحية "الكلمات المتقاطعة",ثم قدمت مسرحيتين نثريتين,هما "الحكم قبل المداولة" و"البيرق الأبيض" وأخرى كوميدية وهي"ملك الشحاتين"_ مقتبسة عن "أوبرا القروش الثلاثة" لبرشت و "الشحاذ" لجون جاي_أخرجها جلال الشرقاوي. وشهد عام 1971 كتابتي واخراجى لمسرحية "الذباب الأزرق"وهى كوميديا سوداء تحكى عن مذبح أيلول الأسود,منعت أجهزة الرقابة بمصر عرضها,وكأنها وجدت إنذار لأجهزة الأمن,والتي بالطبع فهمت الإشارة. أخـش بيت الأدب ألقى الأدب ممنوع..تدخل ورايا المباحث شئ ومش معقول. يمين شمال بتراقبنى والكسوف مرفوع..لولا الملامة لا ياخدوا عينه م البول. ويفتح نصر أكتوبر المجيد شهيتي للكتابة,ليشهد عام 1974كتابتى لمسرحيات "منين أجيب ناس"و "النجمةْ أم ديل"و "أفكار جنونية في دفتر هاملت" وهى مقتبسة عن مسرحية هاملت. أعرف أمي..أمي لا يمكن أن تسقط، خوفاً..بل تسقط مسبية..أو مكتوفة..أو مخطوفة..أو نائمة.. أو معمية. ...........................................................................................................؟ هذه الهزات النفسية لم تكن بسبب إدماني للخمر,لكن ترى ماذا كان في امكانهم أن يقولوا عنى؟ فلست وحدي الذي ارتاد نوادي القاهرة الرخيصة,إنه جيل كامل من المثقفين والفنانين والشعراء, يفعلون ما أفعله,وربما باستغراق أكثر,إذن القضية ليست أنى أشرب أو لا أشرب,المهم أن نستنتج الدوافع النفسية الكامنة وراء الظاهرة التي تلخص الرفض والغضب واللعنة المكبوتة في الصدور, ليس مصادفة إذن أن المثقفين المصريين في جلسات الشراب بالذات,ينفعلون إلى حد الاشتباك بالأيدي,لتفريغ الطاقة المكبوتة والمكتومة,فأنا أسكر لأكتب,وأكتب لأسكر,لقد فصلوني من عملي كمدرسًا في أكاديمية الفنون في القاهرة,وأدخلوني مستشفى الأمراض العقلية_أربعة مرات علي مدى عشر سنوات_بسبب كتابتي للرباعيات,والتي كتبتها لأعبر بها عن غيظي من الكذب والنفاق الذي اتسمت به السياسة العربية بعد نكسة 67,واشمئزازي من معظم المثقفين العرب الذين صمتوا عن قول الحقيقة,أو باعوا أنفسهم لدوائر السياسة. يا إما تسْـكر وتسْـكر زيي ليل ونهار..ونهار وليل وأنت شايف نكسه ع العتبه. اسقينى واعمينى لو حتى بميّه نار.. عشان ما أحسش بإن السيف على الرقبة. وقلنا ننضف بقى قالوا بلا وكسـه .. واللـه لتحصل بدال النكسه ميت نكسه ...........................................................................................................؟ لا,الأصعب حقا حين كتبت لافتة تحمل كلمة"للبيع"وعلقتها على ظهر ابني الكبير شهدي,ثم وقفت أبيعه على رصيف ميدان سليمان باشا,حتى لا يموت من الجوع,بعد أن عجزت عن توفير ثمن الطعام له_ نشر شهدي على الإنترنت عام 1998 أجزاء صوتية من قصائد "الأميات" والتي تعد من أشهر أعمال والده,ونظرا لاحتوائها على كثير من كلمات السباب,لوحق بسببها قضائيا, مما جعله يهرب إلى روسيا حيث يعيش الآن. اكره واكره واكره بس حب النيل .. وحب مصر اللي فيها مبدأ الدنيا . دي مصر يا شهدي في الجغرافيا ما لها مثيل .. وفى التاريخ عمرها ما كانت التانيه . ...........................................................................................................؟ فعلا مثلت عدة أدوار على المسرح,ففي عام 1972 لعبت دور جندي فلاح في مسرحية (الجيل الطالع),وفى عام 1977 لعبت في مسرحية (أوكازيون) دور مشاهد مخمور يجد نفسه فجأة في مكان ما,فيتعرف بالتدريج على المكان,ليكتشف أنه مسرح ويكتشف الجمهور أنه فنان,مؤلف ومخرج وممثل,فُرضت عليه البطالة المقنعة عشر سنوات,وحُرم طوالها من الوقوف على المسرح فأدمن السُكر،يناشد الفرقة الجوالة بأن تعيده إلى المسرح أو تعيد المسرح إليه,وأصرخ في نهاية العرض:بريخت الله يرحمه قال إن المسرح هو البيت الثاني للفنان..لكن أنا الله يرحمني برضو بقول إن المسرح هو البيت الأول للفنان..رجعوني بيتي وبلاش الانتحار البطيء بالسبرتو..ولا الانتحار السريع بسيانور البوتاسيوم..اللي بيتباع في جميع الأجزخانات..بلاش..خدوني معاكم.. بس بشرط..لا بيع ولا شرا..ولا رشوة ولا شيلني وأشيلك..ولا مزادات ولا اوكازيون!,وهكذا كان دوري في الحياة. ...........................................................................................................؟ نعم فرحت لنشر نعيى وأنا معتقل في مستشفى المجانين,عندما تناقلت الصحف والمجلات الأجنبية الخبر,فلقد ودعني الرفاق بمقالات ومرثيات,لم أكن أحلم بأن أراها ميتا,لأن الميتين لا يقرؤون, يومها عرفت أنني إنسان لست زائدا عن الحاجة,وأن ورائي وأمامي رفاقا يتمتعون بالوفاء للكلمة وأن الكلمة لا تموت ولا ينشر لها نعى,فالناس يقولون الحقيقة في حق الميت,وقد يلجأون إلى النفاق في حقوق الأحياء. أنا عارف أنى هاموت موته ما متها حد .. وساعتها هايقولوا لا قبله ولا بعدُه. وبطانه بتقول يا عينى مات في عمر الورد.. وعصابة بتقول خُلُصْـنا منه..مين بعده. .............................................................................................................؟ أنا أشك إن اسمه الحقيقي أبو العلاء المصري,لا أبا العلاء المعرى,فكان عشاقا لمصر,وكذلك أنا,كارها للخيانة,وكذلك أنا,فالسادة المستشرقين والمستغربين لم يفهموا سر الرجل جيدا,وعلى رأسهم طه حسين والعقاد,أو فهموه,ولكنهم جبنوا أن يقولوا ما يعلمون,أو حتى بعض ما يعلمون. آه يا بنى يا ورده لسـه منوره ع الغصن..أوعى الخيانة يا كبدي أوعى م الأندال . الفن أصبح خيانة والخيانة فن .. شوف الشوارع وقوللى فيها كام تمثال . لا أجد أفضل من قول هذا الرجل المفترى عليه_وكذلك أنا_لأختم به حديثي. تلوا باطلا وجلوا صارما..وقالوا صدقنا فقلنا نعم. مات "دون كيخوته"المصري في أكتوبر 1978,صمت وللأبد الطائر الأخضر الذي ظل دائما خارج السرب يغرد: ألام نجئ ثم نروح لا جئنا ولا رحنا..ألام نعيش ثم نموت لاعشنا ولا متنا..هو المنفى إذا كان البقاء قرين أن نفنى..يتامى نحن يا أطيار..دعوا الآهات
للأشجار..فقد جزت بلا منشار!
سينارست وائل مصباح عبد المحسن