لم يمر تنظيم في تاريخ اليمن الحديث كان يحوي في تركيبته الاجتماعية تمثيلاً للبنية المجتمعية اليمنية بتنويعاتها المناطقية المتراكبة مع الطائفية، وهذا يشمل كل شطر على حدة، وبالطبع أيضاً اليمن الموحد الذي حصلت وحدته في يوم 22 أيار 1990، الشيء الذي رأينا مفاعيله في انتخابات برلمان 1993 لما حصل حاكم الشطر الجنوبي السابق، أي الحزب الاشتراكي، على ستة وخمسين من مقاعد مناطق «اليمن الجنوبي» البالغة تسعة وخمسين. إذا أردنا تطبيق ما سبق على تاريخ اليمن منذ يوم 26 أيلول 1962، تاريخ الثورة ضد الملكية، فإننا نجد أن الحرب الأهلية التي أعقبت ذلك اليوم قد تواجه فيها الملكيون، المتواجدة قواعدهم الاجتماعية بين شمال صنعاء حتى صعدة عند المنتمين إلى الشكل التقليدي للمذهب الزيدي، مع الجمهوريين الذين توزعوا بين زيديين (متأثرين باتجاه زيدي مقترب من السنة، بدأ منذ ابن الوزير اليمني ـ ت 1436م ـ) كانوا من اتحاد قبائل حاشد المتواجدة في المناطق المحاذية لصنعاء بزعامة آل الأحمر والمعارضة للإمامية، وبين بعثيين متمركزين في الوسط الزيدي، وناصريين و«حركيي» حركة القوميين العرب الذين كانوا أساساً من المذهب الشافعي المتمركز جنوب مدينة صنعاء وفي الساحل، والذي كان يمثل معتنقوه نصف سكان الشطر الشمالي، فيما كان تنظيم «الحركيين» في الجنوب، أي (الجبهة القومية لتحرير الجنوب المحتل)، متركزاً أساساً في لحج وحضرموت وأبين، بينما استندت (جبهة تحرير الجنوب المحتل) إلى قاعدة عمالية في مدينة عدن. كان حسم (الجبهة القومية) للوضع على الأرض ضد غريمها الجنوبي الآخر، الموالي للقاهرة، مؤدياً بالبريطانيين إلى تسليم مقاليد الشطر الجنوبي (كل مسلميه من الشوافعة) لها في يوم 30 تشرين الثاني1967. سبق هذا الحدث الجنوبي بأسابيع حدث آخر في صنعاء لم يكن أيضاً لصالح الرئيس عبد الناصر، الخارج لتوه من هزيمة 5حزيران، لما أُبعد المشير السلال، والناصريون و«الحركيون»، من الحكم لصالح «الجمهوريين المعتدلين» الذين ضموا تحالفاً من الاسلاميين التقليديين الزيديين (الشيخ حسين عبد الله الأحمر) مع اسلاميين سُنة من الإخوان المسلمين وغيرهم، كانوا جميعاً منحدرين من بقايا حركة 17 شباط 1948 التي انقلبت وقتلت الإمام يحيى قبل أن تفشل، ليعودوا ويشاركوا في انقلاب 1962، كما ضموا بعثيين. كان حسم (حكم 5 نوفمبر 1967) للأمور ضد غلاة الملكيين في حصار صنعاء (كانون أول67 ـ شباط 68) وضد التمرد العسكري الذي قام به «الحركيون» في 23 آب 1968 مؤدياً إلى تمهيد الطريق أمام مصالحة «الجمهوريين المعتدلين» مع «الملكيين المعتدلين» (بدون عائلة الإمام وأنصارها) في يوم 26 آذار 1970 بجدة تحت رعاية الملك فيصل. قاد هذا لأن يعيش اليمن الشمالي استقراراً سياسياً، ما عبر عن قاعدة اجتماعية واسعة للحكم، حتى أتاحت خلافات البعثيين (الدكتور محسن العيني ـ المقدم مجاهد أبوشوارب) مع أركان الحكم الآخرين (الرئيس الإرياني ـ الشيخ الأحمر) مجالاً للمقدم ابراهيم الحمدي ذي الأصول «الحركية» كي يقوم بانقلاب 13حزيران 1974، بالتعاون مع البعثيين والناصريين، ليدخل في صدام مع الرياض، ويتقارب مع يساريي عدن، ما دفع اليمن الشمالي لأن يعيش في فترة من اللااستقرار، حتى أدى مقتله الغامض يوم 11تشرين أول1977لعودة العسكر والمدنيين، الموالين للعاصمة السعودية، للإمساك بمقاليد الأمور، حتى مقتل المقدم أحمد الغشمي بقنبلة كانت موضوعة بحقيبة مبعوث رئيس اليمن الجنوبي، ليستلم المقدم علي عبد الله صالح الأمور في تموز 1978مستنداً للرياض ولتلك القوى التقليدية (القبلية والإخوانية)، وهو المنتمي لعائلة زيدية من منطقة صنعاء، بالترافق مع تشدده ضد ماركسيي اليمن الجنوبي (الذين أسسوا الحزب الاشتراكي عام1978) وضد امتداداتهم الشمالية وبالذات بين «الحركيين» المتحولين أيضاً للماركسية. أعطى هذا الاستناد للسعودية وللقوى التقليدية، مع بعث بغداد المتقاربة بالثمانينيات من الرياض، حكم المقدم صالح استقراراً دام طوال ذلك العقد من الزمن، حتى جاء الانهيار السوفياتي مضعفاً يساريي الشمال ودافعاً زعيم الحزب الاشتراكي علي سالم البيض لكي يمارس دور شكري القوتلي مع عبد الناصر لما وقع اتفاقية عدن للوحدة الاندماجية يوم 30 تشرين الثاني 1989. عاش اليمن، في الخمسة عشر عاماً الماضية، تحت حكم سلطة كانت قاعدتها الاجتماعية الأساسية ممتدة بين صنعاء وتعز مع بقايا جناح الرئيس اليمني الجنوبي السابق علي ناصر محمد الذين أخذ صدامهم مع منافسيهم في الحزب الاشتراكي يوم 13 يناير 1986 طابعاً مناطقياً بين أبناء عدن ـ أبين ـ شبوة وبين أبناء لحج (علي عنتر ـ علي شايع هادي ـ صالح مصلح قاسم) وحضرموت (علي سالم البيض ـ حيدر أبو بكر العطاس). في الوقت نفسه فإن هزيمة جنوبيي الحزب الاشتراكي في حرب 1994 قد قادت إلى تهميش الحضارمة واللحجيين، بالترافق مع تعيين نائب رئيس الأركان السابق الموالي لعلي ناصر، أي عبد ربه منصور هادي، نائباً لرئيس الجمهورية بدلاً من علي سالم البيض، وهو من محافظة أبين، تماماً كما أدت مصالحة 1970 إلى تهميش ملكيي منطقة صعدة وزيديتها التقليدية. انفجر تمرد (الحوثيين) في حزيران 2004 بصعدة، وهم من الزيدية التقليدية الأقرب للشيعة والذين لا يعترفون بشرعية جمهورية 26 سبتمبر 1962. بعد ثلاث سنوات، بدأ «الحراك الجنوبي» في نيسان 2007، المتمركز أساساً في حضرموت ولحج، تحت يافطة شعارات مطلبية (إعادة العسكريين والمدنيين المفصولين إثر حرب 1994وتسوية أوضاعهم، وقف امتلاك المتنفذين الشماليين لأراض كانت مصادرة من حكومة الشطر الجنوبي، مشاركة أهل الجنوب في الإدارة والمناصب) ليصل هذا«الحراك»إلى حدود مطالبة أحد قادته، وهو العميد السابق ناصر النوبة، باستقلال الجنوب اسوة باستقلال كوسوفو في شباط 2008، بالترافق مع نزعة جنوبية مناطقية (ممزوجة بطائفية ضد الزيدية) لا تلوي على شيء، وصل احد مفاعيلها إلى حدود أن تنزع صورة الشمالي عبد الفتاح اسماعيل من يافطة (شهداء أحداث 13يناير 1986) في احتفال جنوبي بالذكرى الرابعة والأربعين لثورة 14 أكتوبر 1963 التي أشعلتها (الجبهة القومية) بالجنوب اليمني ضد البريطانيين من ردفان بلحج، مع أنه كان العمود الفقري لتلك الجبهة في كفاحها ضد البريطايين، ثم في بناء ومسار الشطر الجنوبي خلال عقدين من بدء تاريخ قيام جمهوريته. السؤال الرئيسي الآن: إلى أين سيسير اليمن؟ هل إلى 28 أيلول 1961يمني؟ أم سيتفادى ما حدث في ذلك اليوم الذي انفصمت فيه عرى الوحدة المصرية السورية؟