المشكلة الفلسطينية هي مشكلة عربية بالمعنى الثقافي والتاريخي والاجتماعي أتحدى من يقول لي إنني وُظفت للحظة أو ليوم واحد عند أي نظام عربي كتاب "نظرة أورفيوس" يعبر عن وضعي إزاء العالم العربي والثقافة العربية
- حوار: وليد شميط * إنه أحد قلة من الشعراء العرب الذين يتأملون بعمق في ماضي العرب وفي حاضرهم، في تراثهم وفي حداثتهم، في تقدمهم وفي أسباب كبوتهم، في علاقتهم بالآخر، بالتاريخ، بالعصر، بالهوية، بالثقافة، بالنهضة، بالحضارة... وهو أحد قلة من الذين يجرؤون على كشف «المستور»، ومواجهة السائد والمألوف، ومناقشة «الثابت والمتحول» واستفزاز «الهيمنة». استفزازي أدونيس؟ كلماته، في كل حال، تشبه السوط: «لا يملك العرب ما يقدمونه إلى العالم (..) لقد اختفينا كحضارة، نحن موجودون كشعب، ولكننا نغيب عن خارطة العالم اليوم (..) الحضارة العربية انقرضت». هذه مجرد عينة أثارت مؤخرا كلاما كثيرا وردود فعل غاضبة. إذا كان «الأسلوب هو الإنسان»، كما يقول الفرنسي بوفيه، فهذا هو أدونيس، وهذا هو أسلوبه. يسائل، يحرك، يتحدى، يتمرد، ينتقد، يخاطب العقل، يستنهض، يقول علنا ما يردده الكثيرون سرا، يبدع في اللغة وفي الشعر، يتجول في الفلسفة وفي الفكر، يكره الآيديولوجيا ويعشق التاريخ، ولا يتعب من البحث عن الحرية. ثقافته انسكلوبيدية، ومشروعه كبير، وهو ليس أقل من إعادة النظر الكاملة والشاملة بالمجتمع العربي. هذا هاجسه في مختلف أعماله، وخصوصا منها «الثابت والمتحول»، «أغاني مهيار الدمشقي»، «ديوان الشعر العربي»، «الكتاب» و«نظرة أورفيوس» Le Regard d’ORPHEE الذي صدر مؤخرا بالفرنسية في باريس عن دار «فايار»، ويتضمن حوارا طويلا، عميقا، فكريا وفلسفيا، أجرته الأستاذة في جامعة باريس وعالمة النفس حورية عبد الواحد التي سبق لها أن ترجمت له إلى الفرنسية مؤلف «الكتاب». عملت حورية عبد الواحد على تشريح عالم أدونيس، فرافقته في رحلة فكرية طويلة تجول خلالها الشاعر والمفكر في الشعر طبعا، وفي شعره خصوصا، وتوقف، كعادته، عند هموم الإنسان العربي، وما أكثرها، وتحدث عن الفلسفة، التراث، النهضة، الحداثة، وتطرق إلى الاستشراق والمستشرقين، وإلى المرأة والجسد والايروسية التي يسميها الشبق، وإلى المنفى، وإلى الحضارة والتخلف، وإلى «نحن وهم» الشرق والغرب.. «اكتشفت شاعرا ملتزما»، تقول حورية عبد الواحد في مقدمتها للكتاب، وتضيف: «كلمته القوية لا تخشى العواصف الرملية التي يمكن أن تسببها. يزعزع أدونيس المكتسبات النظرية ويفكك الأنظمة الفكرية (..) إنه شاعر الحركة».
كلما تقدمت في العمر ازددت نشاطا وحيوية وتمردا..
شكرا على هذا الشعور إزائي.
خلال فترة قصيرة نسبيا صدر لك في باريس كتاب «نظرة أورفيوس»، وهو يتضمن حوارات طويلة أجرتها معك حورية عبد الواحد. وعرضت في غاليري باريسية معروفة بعضا من أعمالك الفنية الكولاج التي تسميها رقائم. وبطلب من بلدية ميلانو كتبت مسرحية عن ميلانو تقدم حاليا على أحد مسارح المدينة. وسافرت إلى براغ حيث مُنحت جائزة حرية التعبير. ولا تتعب من السفر. تتدخل في السياسة، وتتحدث عن الحضارة العربية المنقرضة فتثير كلاما كثيرا وردات فعل غاضبة. لماذا كل هذه الحركة؟ هل تشعر أن الوقت يمضي وأنك لم تقل كلمتك بعد؟ لا، ليس الموضوع أن الوقت يمضي، أو أنني لم أقل كلمتي بعد. في الواقع الوقت يمضي، والإنسان لا يقول كلمته نهائيا. دائما لدى الإنسان ما يقوله. الموت وحده يحرم الإنسان من القول. لكن ليس هذا هو السبب في نشاطي وفي كلامي. السبب يعود إلى انخراطي في الحياة العربية، وإلى اهتمامي بمصير العرب الذين أنتمي إليهم، وإلى قلقي على هذا المصير. هذا ما يدعوني باستمرار إلى أن أقول شعوري إزاء الوضع العربي. ومع الأسف، فأنا بعد 50 سنة من النشاط في هذا الميدان، بشكل أو بآخر، وعلى مستويات متعددة، أزداد يقينا بأن العرب، كطاقة خلاقة تعمل على بناء مجتمع جديد وعلى المشاركة في بناء العالم وفي التخطيط لمستقبل بشري أكثر جمالا، على هذا المستوى، غير موجودين. وبهذا المعنى أقول إن الطاقة الخلاقة عند العرب غير موجودة. وبهذا المعنى فهم منقرضون.
سنتحدث حول هذا الموضوع، ولكن قبل ذلك اسمح لي أن أطرح عليك سؤالا: كنت أنت نفسك طرحته عام 1998 على الفنان السوري الراحل فاتح المدرس: هل تعتقد أن الشيخوخة نوع من العودة إلى النبع، إلى الطفولة؟ علما بأن النشاط عندك لم يتضاءل ولم يخف. بل بالعكس.
الطفولة، كظاهرة ولادة ونمو وكظاهرة حياتية، يستحيل العودة إليها. ليس هذا هو المقصود من الكلام عن الطفولة والعودة إليها، وإنما المقصود من الكلام عن الطفولة والعودة إليها هي بوصفها رمزا لمواجهة العالم للمرة الأولى ولدور الطهارة والبكارة ولخلو العقل من الأفكار المسبقة وللانفتاح الكلي والعقلي على العالم. إذن الطفولة هي البداية الدائمة وأنا أستخدمها كرمز. والشيخوخة، بهذا المعنى، الشيخوخة الخلاقة هي الطفولة. المسألة إذن ليست مسألة عودة. فالخلاق طفل دائم.
لنأخذ مثلا، أعمال الكولاج التي تسميها رقائم التي تعمل عليها منذ فترة ليست بعيدة على ما أعتقد، إلى أين تعيدك هذه الرقائم؟
لهذه الرقائم قصة. لماذا هذه الرقائم؟ في هذا المكان الضيق حيث نحن الآن، أقرأ وأكتب، وأمر في لحظات لا أستطيع فيها أن أقرأ ولا أن أكتب. أقف هكذا من دون عمل، لكن أصغي إلى الموسيقى. وبما أنني صادقت أهم الفنانين العرب وكتبت عن عدد كبير منهم، وقد اكتسبت بالتالي معرفة فنية بإبداعاتهم تتجاوز حدود الصداقة، خطر لي، ومن دون تخطيط مسبق، أن أقوم بعمل ما في إطار تشكيلي. قلت في ذات نفسي إن هذا يمكن أن يفتح لي أفقا آخر، وإنني بهذه الطريقة لا أضيع وقتي. وفعلا جربت، ولكني لا أستعمل الألوان الزيتية، وإنما أستعيض عنها بألوان أخرى موجودة سلفا بأشياء صغيرة مهملة لا معنى لها، خرقة، حجرة، ورقة، وأقوم بتركيب ما بالإضافة إلى الخط. أنجزت بعض الأشياء على مدى سنة، ثم نظرت إلى ما قمت به ولم يعجبني، فرميت كل شيء في سلة المهملات. ثم قررت أن أتابع، وتابعت وأنجزت العديد من الرقائم من دون أن أريها لأحد. وذات يوم زارني هنا في المكتب صديق شاعر فرنسي ورأى بعض الأعمال. سألني عنها، فقلت له إنها لصديق فنان وضعها عندي. أبدى إعجابه بها وقال إنها جميلة وجديدة، وإنه يتمنى أن يتعرف على «صديقي الفنان». وبعد أيام قليلة اتصل بي وسألني عن «صديقي الفنان» الذي أراد أن يتعرف عليه، فقلت له: يا أخي أنا كنت أمزح. و«الفنان الصديق» هو أنا. فوجئ كثيرا وقال إنها جديرة بأن تُعرض وإننا يجب أن نهيئ معرضا. الحقيقة أنه شجعني كثيرا. كما أنني وجدت أصداء إيجابية عند كل من رأى هذه الأعمال. وهكذا دخلت إلى هذا العالم. وقلت إن ما لا أستطيع أن أفصح عنه بالكلمات يمكن أن أعبر عنه بهذه التشكيلات أو بهذه الرقائم.
يعني بالإضافة إلى الشعر والفكر نحن أمام أدونيس فنانا تشكيليا... الحقيقة أنني لا أعتبر نفسي فنانا تشكيليا.
من يبدع مثل هذه الأعمال، ماذا تسميه؟
لا أعرف. أنا أقوم بأعمال هي بالنسبة لي تنويع على كتابتي الشعرية، لكنه تنويع بالأشياء المادية. أكتب كتابتي الشعرية بالكلمات، مع هذه الرقائم أحاول أن أكتب شعرا بالأشياء ذاتها، ولذلك فإنني أسمي هذه الرقائم قصائد، لكن بلغة مادية، بلغة الأشياء ذاتها.
الإضافة إلى الأشياء، تستعمل نصوصا عربية قديمة شعرا ونثرا.
للشعراء العرب القدامى دين علي، ولهم دين علينا جميعا، وعلي أن أفي بعضا من هذا الدين بأن أحييهم وبأن أستخدم نصوصا لهم في أعمال تشكيلية أقوم بها.
لماذا لا تستعمل نصوصا لك في هذه الأعمال؟
هذه مسألة أخرى. فكرت بالأمر، غير أن استعمال نصوصي يفرض علي التزاما أشد وأقوى بالعمل. وأعتقد أن هذا سيؤدي إلى تغيير شكل العمل وإلى تغيير علاقتي به. ربما أقوم بذلك، علما بأنني لجأت إلى نصوص لي في حيز الكتابة، أي في مخطوطات شعرية أنجزتها. لا أزال حتى الآن في حيز الكتب الخاصة بي، وإذا ما أردت الإقدام على استعمال نصوصي في الرقائم لا بد من دراسة الأمر إذ إن الموضوع سيأخذ بعدا آخر.
نعود إلى كتابك الأخير «نظرة أورفيوس». لماذا اخترت هذا العنوان؟ هل لأن أورفيوس، كما تقول، هو رمز الإنسان الذي يعبر الصعوبات ويتجاوزها؟ هل ترى نفسك في أسطورة أورفيوس؟
تقول الأسطورة إن أوريديس، حبيبة الشاعر والفنان اليوناني أورفيوس، ماتت وذهبت إلى العالم الآخر. كانوا يتخيلون أن العالم الآخر في أسفل الأرض وليس في السماء. أحب أورفيوس أن يرى حبيبته، فاشتُرط عليه، لكي يراها، أن لا ينظر إليها ثانية عندما يخرج. حتى لا تموت. فإذا ما أراد لها أن تبقى حية، عليه أن لا ينظر إليها وهو يغادر. ولكن أورفيوس لم يستطع إلا أن ينظر إليها. ترى هل أراد لها في أعماقه أن تموت؟ أم أن الحب كان قويا إلى درجة أنه لم يتمكن إلا أن ينظر إليها؟ وبهذا فإن النظر إليها كان مفصلا: إما أنه دليل المكبوت في نفسه وعلى أنه يريد أن يتخلص من المرأة التي يحب، أو على العكس فهو لم يستطع أن يترك العالم الآخر إلا بعد أن يراها. فنظر إليها وماتت. يحار المرء في تفسير هذه النظرة. وفي هذه الأسطورة ما يعبر عن حدث إزاء العالم الذي أعيش فيه: أحبه إلى درجة الموت، وأموت فيه إلى درجة الحب. نظرة أورفيوس يمكن أن تعبر عن وضعي الآن إزاء العالم العربي، إزاء الحضارة العربية والثقافة العربية. وقد تكون هذه الرمزية هي أعمق ما يمكن أن يعبر عن موقفي منها: موت إلى درجة الحب، وحب إلى درجة الموت.
هذه رمزية قوية جدا. هل تشعر أنك بالفعل منشق عن الحضارة العربية وعن الثقافة العربية؟ وأنا أستعير هنا تعبير «أدونيس المنشق» من عنوان مقال طويل نشرته عنك صحيفة «لوموند» الفرنسية بمناسبة صدور «نظرة أورفيوس».
بالتأكيد أنني منشق عن السائد، منشق عن المؤسسة السائدة، السياسية والاجتماعية، ومنشق عن الثقافة السائدة، لأن الثقافة السائدة هي وليدة المؤسسة السائدة. بهذا المعنى أنا منشق. لست منشقا عن الحقيقة الأساسية القائمة وراء هذه المؤسسة ووراء هذه الثقافة، لأنه لا يمكن أخذ المجتمع ككل لا يتجزأ. المجتمع طبقات، وهناك طبقة عميقة في المجتمع أنتمي إليها هي الطبقة التي كانت في التاريخ العربي مهمشة أو منبوذة أو غير مقدرة، وهي أساسا الطبقة التي صنعت الثقافة العربية والتاريخ العربي.
تعني بذلك طبقة المبدعين؟
طبقة المبدعين في مختلف المجالات، الذين رفضتهم إجمالا المؤسسة السائدة والثقافة السائدة. فهذه المؤسسة رفضت المتصوفين، رفضت الفلاسفة، رفضت العلماء المبتكرين في جميع الميادين، ورفضت الشعراء الكبار الخلاقين مثل أبو العلاء المعري والمتنبي...
ولكن المتنبي، حتى لا نذكر غيره، كان على علاقة جيدة مع الحاكم، وبالتالي مع المؤسسة والسائد..
صحيح، ولكن إذا درسنا شعر المتنبي بالعمق نرى أنه لم يكن يوظف شعره في سبيل هذا الحاكم وإنما كان يوظف الحاكم في سبيل شعره. والفرق كبير. كان يستخدم كل شيء من أجل شعره.
هذه عبقرية المتنبي، ولكنه لم يقطع مع الحاكم. لم يقطع مع السائد، والسائد بالطبع هو الحاكم. مرة سألت جان جينيه وقلت له: «جان، أنت، من حيث حياتك الشخصية وتجربتك، يجب أن تكون من جهة سيلين، يعني من جهة الأشخاص الذين يكتبون لغة قريبة من الناس العاديين، حتى لا أقول عامية دارجة، كما كتب سيلين. بينما أنت، بالعكس تماما، كتبت بأرقى لغة يكتب بها الفرنسيون، لغة مالارميه. كيف يمكن أن تكون أنت من جهة مالارميه وليس من جهة الأشخاص الشعبيين العاديين وأنت تتحدث عن الحياة التي عشتها؟ فأجابني: «هذه نقطة مهمة. أنا تعمدت الكتابة بلغة مالارميه، لأن لغة مالارميه تفهمها الطبقة التي أريد أن أهدمها. كتبت بهذه اللغة كي أهدم البرجوازية الفرنسية، بينما لو كتبت بلغة سيلين لكانوا همشوني ونبذوني».
في قصيدتك الأخيرة «جذر السوسن»، تقول: «لا تقدر القصيدة أن تقف على الورق لكي تحيي حلبجة، لتقف إذن على جبين العالم. وتسأل: الكردي مبعثر في الآخر (...) ولكن أليس نفي الآخر نفيا للذات؟ أليس هذا النفي شكلا آخر للموت؟»
كلام كثير يقال في العالم العربي حول التسامح وقبول الآخر. أين نحن من العلاقة بالآخر؟
ثمة ظاهرة عند العرب إزاء الآخر. الآخر ليس موجودا، وهذا ما يثبته تاريخنا، إلا في حالتين: إما أن يُعرّب داخل المجتمع، أو نسيطر عليه ونهيمن عليه كآخر كافر. وهذا ما ابتعناه على مدى التاريخ. نريد أن نعرّب المسيحي والكردي وكل أقلوي، على كل المستويات. فالتعريب ليس على مستوى اللغة فقط. نريد أن نعرّب أفكاره لكي تصير مثل أفكارنا، وأن نوحد عقيدته مع عقيدتنا إلى درجة لا نترك له معها حرية المعتقد. فإذا كانت حرية المعتقد غير مقبولة، فما بالك بحرية التكلم بلغة مختلفة، أو بحرية تكوين مؤسسة تلبي حاجاته هو كشخص ينتمي إلى أصول تاريخية غير عربية. عندنا هذه النزعة التوحيدية، نزعة الصهر، صهر الآخر بحيث يذوب في العروبة.
ولكن لا يمكن أن ننسى أن الحضارة العربية ـ الإسلامية نجحت في التعامل مع الآخر، مع حضارات ولغات متعددة عبر التاريخ.
مثلا؟ مثلا الحضارة الفارسية، الحضارة البيزنطية، وغيرها. هذه الحضارات موجودة، بشكل أو بآخر، في الحضارة العربية. صحيح. حيث كانت السياسة مرتاحة، والخليفة واسع النظر، كان ينفتح على الآخر. المسألة كانت مسألة أشخاص، لم تكن سياسة عامة مبدئية قائمة في صلب الرؤية السياسية العربية. لذلك رأينا، مثلا، فترات جرى فيها اضطهاد الفرس باعتبارهم شعوبيين وفترات حوربت خلالها الفلسفة باعتبارها يونانية غير عربية، وهناك فترات استفاد خلالها العرب من الأشياء الموجودة، كما استفاد معاوية من كل التراث البيزنطي في تأسيس الدولة الأموية. إذن المسألة مسألة أشخاص. لم تكن هناك سياسة دولة متواصلة تقوم على معرفة وعلى حرية، كما كان الأمر مع المأمون. المأمون أمر بالترجمة، بينما آخرون حاربوا فكر الآخر.
هذا جانب تعاني منه الحضارة الغربية أيضا. حتى الأمس القريب كان الغربيون ينفون أو لا يعترفون بإسهام الحضارة العربية في حضارتهم.
أعتقد أن الاعتراف بإسهام الحضارة العربية صار أمرا واقعا في الغرب. جميعهم يعترفون بابن سينا، بابن الهيثم، بابن رشد. ابن رشد حي في الغرب أكثر مما هو حي عند العرب. نحن أخذنا ابن رشد من الغرب، وكذلك ابن خلدون. أمس، كنا ضد ابن خلدون. كان تدريس ابن خلدون عند العرب ممنوعا. عندما بدأ الغربيون يهتمون بابن خلدون ويكتبون عنه، خجلنا وصرنا نهتم بابن خلدون ونحكي عنه. المهم في العلاقة بالآخر، في العلاقة بالثقافة، هو أن تكون هناك سياسة واضحة لدى الدولة، بصفتها دولة، وبصرف النظر عن الحاكم. يجب أن لا تكون الثقافة، والعلاقة بالآخر، منوطة بأخلاق الحاكم وبشخصيته، بحيث يكون هذا الحاكم منفتحا يحب الحكمة والترجمة مثل المأمون، مثلا، أو ذاك الحاكم لا يحب الأجانب ولا يحب الترجمة.. هذا أمر آخر.
شاركت مع طاهر بن جلون ومحمود حسين وأمين معلوف في نشر مقال أو موقف في صحيفة «لوموند» عبرتم فيه عن التفاؤل بالخطاب الذي وجهه الرئيس الأميركي أوباما إلى المسلمين، واعتبرتم أنه صوت نادر وغير متوقع.
قمنا بذلك على أساس أن يكون للعرب مستوى في الحوار وفي الجدال بينهم وبين أوباما، لا أن يكونوا مختلفين في ما بينهم. القضية الفلسطينية قضية عربية وبالتالي يجب أن يكون الصوت العربي موحدا. لذلك نحن اعتمدنا أن يكون هناك صوت عربي موحد مقابل الصوت الأميركي ومقابل الصوت الإسرائيلي. وإذا كان هناك صوت عربي، معنى ذلك أن هناك حوارا. والحوار لا يعني القبول والخضوع والرجاء. لا بد من أن يتخذ العرب موقفا، أن يقولوا بإعادة النظر بسياستهم تجاه إسرائيل، بإعادة النظر بالموقف من السلام.. المهم أن لا ينتظروا من أوباما أن يحل المشاكل. أوباما وحده لا يحل المشاكل. يمكن لأوباما أن يحل المشاكل بناء على الحوار مع الطرفين. المهم أن يكون للعرب وجودهم وأن يستخدموا هذا الوجود على الأقل لحل مشكلة تقتلهم يوميا. منذ أكثر من نصف قرن والمشكلة الفلسطينية تنخر في الجسم العربي وتدمره على جميع المستويات. لذلك يجب، على الأقل، أن يدركوا أن المشكلة الفلسطينية ليست محصورة بالنظام فحسب، هي مشكلة عربية بالمعنى الثقافي، التاريخي، الاجتماعي، تتخطى الأنظمة. لذا يجب أن يكون لهذه الأنظمة رؤية تاريخية تتجاوز حدودها الضيقة كأنظمة.
تقول إن المشكلة الفلسطينية هي أيضا «مشكلة عربية بالمعنى الثقافي» ماذا تعني بذلك؟
المسألة الثقافية ليست مسألة فردية. هي مسألة رؤية. السياسي جزء من الثقافي، وليس العكس. العرب يتصرفون على أساس أن السياسي هو كل شيء، وأن الثقافة والفن والعلم والجيش تابع للسياسي. وهذه من الأخطاء الكبرى التي تؤكد أن النظام العربي يفتقر إلى أي رؤية خارج حدوده المصلحية وخارج حدود البقاء في الحكم مهما كلف هذا البقاء. وهذا مما يتيح القول إن الثقافة العربية السائدة ليست ظاهرة بحث وتساؤل ونقد، بقدر ما هي ظاهرة سيكولوجية. ولهذا حديث طويل
بهذا المعنى تريد أن تقول إن السياسة جزء من الثقافة؟
يجب أن تكون جزءا من الثقافة. وعلينا نحن أن نسعى باستمرار إلى إقناع العرب بأن تغيير الأنظمة لا يؤدي بالضرورة إلى تغيير المجتمعات. تغيير المجتمع يقتضي تغيير بنياته التربوية والسياسية والثقافية والاجتماعية. وبخلاف ذلك لا يمكن أن يتغير أي شيء على الإطلاق. والدليل على ذلك أن الأنظمة عندنا تتغير منذ 50 سنة، ومع ذلك فالأحوال تزداد سوءا. ازددنا فقرا، وازددنا جهلا، وازددنا تخلفا، وازددنا تأزما اقتصاديا، في ظل أنظمة زعمت أنها أكثر تقدما وأكثر تحررا من الأنظمة التي ثارت عليها. لماذا؟ لأن البنية نفسها لم تتغير.
من هذا المنطلق، كيف تنظر إلى دور المثقف؟
دور المثقف هو أن يقول هذا الكلام، وأن يعمقه باستمرار، وأن لا يسمح لنفسه بأن يكون موظفا لدى السياسي. لا يمكن للمثقف أن يقاطع المؤسسات الثقافية. فهو يعمل في الصحافة وفي التربية والتعليم وفي دوائر الدولة. وهذا من حقه. ولكن ليس من حقه أن يوظف فكره من أجل خدمة نظام. فدور الثقافة هنا، في هذا الإطار، هو إعادة النظر والنقد بحيث تكون السياسة جزءا من الثقافة وليس العكس.
أنت كثيرا ما تنتقد من تسميهم «مثقفو الأفكار الجاهزة والمعلبة». إلى أي حد يقوم المثقف العربي بالدور الذي تتحدث عنه؟
المثقف العربي لا يقوم بدوره النقدي الخلاق. المثقف العربي عنصر تمويهي لكل ما هو أساسي في المجتمع العربي. يموه المسألة الدينية، يموه المسألة الجنسية، ويموه المسألة السياسية.
بمعنى أنه يخضع للممنوعات؟
يخضع للسياسة المتبعة في جعل كل شيء تابعا للسياسي. جعل كل شيء جزءا من السياسي. وهذا ما يجعل من معظم العرب مثقفين موظفين. هذا جانب، والجانب الآخر هو أنه لكي يكون للمثقف دور في المجتمع يجب أن يكون المجتمع نفسه مؤمنا بأن الثقافة تشكل جزءا عضويا وأساسيا من حياته، بحيث يكون المثقفون المتفاوتون والمختلفون والمتناقضون في آرائهم وحدة لا تتجزأ على الصعيد الاجتماعي. بمعنى أنهم ينتمون إلى نسيج اجتماعي واحد مهما اختلفوا في الرأي. لهم الحقوق نفسها في إبداء الرأي والتعبير والظهور على شاشة التلفزيون. أكثر من 95 في المائة من الفرنسيين يقفون ضد السياسي اليميني المتطرف جان ماري لوبان، ولكن هذا لا يمنع لوبان، خلال الحملات الانتخابية، من التمتع بالحقوق نفسها التي يتمتع بها أي سياسي فرنسي آخر. وهذا ما يجب أن يكون عليه الأمر عندنا أيضا، وليس كما تجري الأمور حاليا حيث تُعتبر الدولة كلها ملكا للنظام. وإذا لم تقف مع النظام القائم فلا حقوق لك.
من دون أن ننسى التجربة الديمقراطية اللافتة في الكويت وفي لبنان التي ظهرت بوضوح في الانتخابات التشريعية الأخيرة.
لبنان استثناء ولكنه لا يلغي القاعدة. وهو استثناء بالمعنى السلبي وليس بالمعنى الإيجابي، لأن وضعه الطائفي المرضي هو الذي يعطيه الصحة قياسا إلى الداء الذي يهيمن على العرب.
في زيارتك إلى كردستان العراق قلت كلاما استفز الكثيرين في العالم العربي، وخصوصا حديثك عن «انقراض الحضارة العربية». وعلى الرغم من أنك شرحت موقفك وقلت إنك لم تقصد من «الانقراض» انقراض العرب بوصفهم أعدادا بشرية وإنما بوصفهم طاقة تسير في موكب الإنسانية الخلاقة. قد يتفق البعض معك في ما تذهب إليه من أن العرب يعانون من كبوة حضارية كبيرة ومن تخلف.. ولكنهم يقفون عند أسلوبك في استفزاز الآخرين.
جيد، المسألة إذن استفزازية وليست مسألة ثقافية. مسألة مزاج. وهم، مزاجيا، يرون في هذا استفزازا. المسألة مسألة أسلوب. إذا كانوا موافقين على المضمون فلا بأس من أن يُستفزوا. ولكني أعتقد أنه لا يمكن لأحد أن يجادل في أن العرب، كطاقة خلاقة، غير موجودين على خارطة العالم.
هناك شبه إجماع لدى المثقفين العرب حول هذه المسألة.
هذا يكفيني. يمكن أن أتراجع عن هذا الأسلوب أو أن أعتذر عن الاستفزاز. ليس هذا هو الأمر المهم.
على كل حال المستاءون والمستفزون لم يقصروا في الرد عليك بعنف. فأنت عند البعض مستغرب، متفرنس، «عنصري»، ضد الحضارة العربية، تعيش على هامش هذه الحضارة.. وهناك من وصفك بـ«النخاس»..
النخاس قصة ثانية. الشاعر سعدي يوسف أعتقد أنني نظمت مؤتمرا في دبي ولم أوجه له دعوة للمشاركة فيه، علما بأنني أنا شخصيا لم أشارك في هذا المؤتمر ولم تكن لي أي علاقة به. لاحقا كتب اعتذارا. لا أعرف لماذا غضب لأنهم لم يوجهوا له دعوة لحضور المؤتمر. كان سبق له أن شتمهم. تشتمهم وتريد أن يوجهوا لك دعوة!
أنت تنتقد البنية السياسية والاجتماعية والثقافية العربية بقسوة، ومع ذلك تذهب إلى كل الأماكن..
طبعا، أذهب لكي أسمعهم أفكاري في المؤتمرات والندوات وعلى شاشات التلفزيون. أنا أعبر عن أفكاري باستمرار وفي كل مكان. أتحدى من يقول لي إنني وُظفت للحظة أو ليوم واحد عند أي دولة عربية أو نظام عربي. أنا أذهب إلى الأنظمة العربية لكي أعبر عن الأفكار التي أقولها هنا في باريس. أحرص على أن أذهب وأقول أفكاري في بيوتهم. وإذا ما اختاروا عدم استقبالي، فأنا لست خاسرا. قل كلمتك. ولكن إياك أن تترك لهم أن يوظفوك!
(عن "الشرق الأوسط")