مدينة بخش سراي (قصر الحدائق باللغة التترية) كانت عاصمة تتوسط ولاية القرم التابعة لدولة الخلافة العثمانية، وهي من أشهر وأعرق مدن الإقليم بجنوب أوكرانيا، ويحرص مئات الألوف من السياح الأجانب على زيارتها، لما تحتويه من معالم أثرية تشهد على حقبة طويلة من تاريخ الدولة العثمانية ونفوذها في روسيا وأوروبا.
ولعل من أشهر تلك المعالم في المدينة قصرها المعروف بـ"خان سراي" (أي قصر السلطان)، الذي بناه السلطان العثماني عادل صاحب كيراي قبل بناء المدينة في الفترة ما بين 1519 و1551م، على مساحة 18 هكتارا ليكون مركز حكم ولاية القرم، وليصبح فيما بعد أول وأكبر وأشهر خمسة قصور في الولاية.
ويتضمن القصر بالإضافة إلى سكن السلطان وحاشيته مسجدا ضخما يشبه إلى حد ما المسجد الأموي في العاصمة السورية دمشق من حيث الشكل الخارجي وطبيعة الأحجار التي بني بها.
مسجد خان سراي (الجزيرة نت) ويحمل كذلك كتابات كتلك التي توجد في المسجد الأموي مثل "أد فرائض الله تكن مطيعا، إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم، إلخ"، وزخارف كزخارفه، وحتى زجاج النوافذ المعشق الذي يزينه.
كما تضمن القصر قاعة استقبال للضيوف "سلملك" باللغة التترية، وقاعة خاصة بالنساء "حرملك" ومقبرة خاصة بالسلاطين والأمراء والوزراء والعلماء وقادة الجيش وحدائق شاسعة وعشرين ينبوعا.
يقول أمين القاسم الباحث في تاريخ القرم في حديث للجزيرة نت "أسلم تتار القرم بعد إسلام زعيمهم بركا خان بن جوجي بن جنكيز خان، وصار لهم نفوذ وقوة إقليمية عظيمة بعد أن أصبح القرم ولاية من ولايات الخلافة العثمانية".
وقال إن أوج ازدهار القصر كان في القرنين الخامس والسادس عشر، إذ تدل كتب التاريخ التتري على أن نفوذه بلغ روسيا وعدة دول أوروبية مجاورة، من بينها "موسكو التي كانت تدفع الجزية للسلطان فيه خشية الحرب، وكانت أروقة مسجده تعج بالعلماء وطلبة العلم الشرعي وغيره".
قاعة استقبال الضيوف بخان سراي (الجزيرة نت) دمار وسقوط وقال القاسم إن القصر أحرقته روسيا عام 1736م حيث حملت بشدة على حكم السلطان في القرم، فتراجعت مساحته من 18 هكتارا إلى أربعة، وهدمت عدة مبان فيه وردمت أجزاء واسعة منه، فلم يبق فيه إلا خمسة ينابيع.
وقد سلم جزء صغير من المقبرة وحديقة صغيرة تتوسط ساحة مباني سلملك وحرملك والمسجد من الدمار الذي شمل معظم مساجد مدينة بخش سراي البالغ عددها 32، ولم يبق منها إلا خمسة.
وظل الضعف والهوان ملازمان لسلطة القصر والولاية بشكل عام حتى عام 1774م حين استقلت عن الدولة العثمانية بعد وقوعها تحت السيطرة الروسية، ولم تكن آنذاك جزءا من أوكرانيا.
وأشار إلى أن الروس أعلنوا القصر متحفًا عام 1908، مما حفظ آثاره الإسلامية من بطش نظام الحكم السوفياتي الشيوعي الذي قضى على معظم آثار القرم الإسلامية الأخرى.
وهذا القصر تابع الآن لوزارة السياحة في حكومة إقليم شبه جزيرة القرم، وتشرف الإدارة الدينية لمسلمي القرم على مسجده.
حديقة القصر المتبقية
ويبلغ عدد تتار القرم نحو 500 ألف نسمة فقط في الإقليم، ويشكلون نحو 15% من إجمالي عدد السكان، في حين يشكل الروس نحو 40%، والأوكرانيون 30%، بالإضافة إلى جنسيات وقوميات وأعراق أخرى.
وقد تعرض التتار للتهجير القسري عام 1944م من قبل النظام السوفياتي بقيادة ستالين إلى دول آسيا الوسطى بدعوى الخيانة ومؤازرة الجيش النازي، وذلك في ظروف سيئة قضت على مئات الألوف منهم.
ولا تزال أعداد كبيرة منهم تسكن دول المهجر، ويعاني معظم العائدين من الفقر في ظل غياب حقوق استعادة الأراضي والممتلكات التي صودرت منهم بعيد التهجير، رغم تبرئة النظام السوفياتي لهم من تهمة الخيانة عام 1967م.
ويشعر التتار اليوم بمعاناة وهاجس ضياع اللغة والهوية، بسبب إتلاف معظم كتبهم الثقافية والدينية الإسلامية.
المصدر: الجزيرة