الكتاب متعتي ونزهتي
مع الكتب يعيشون ساعات طويلة ليخرجوا إلى الناس بفكرة جديدة وكنز ثمين. يضيفونه إلى ينبوع المعرفة ليفيدوا به الآخرين. في هذه الزاوية يقوم مندوبنا بزيارة لمكتبة ويحاور صاحبها حول الكتب وأثرها في حياته.
عندما أشرفنا على منزل الشاعر الدكتور فاروق مواسي- المنزل الذي أحب أن يسميه الشاعر حنا أبو حنا "الزَّهراء" لرحابته وجماله وموقعه، لم يكن يدور بخلدنا أن مواسي الذي يتهمه الكثيرون بالتعالي في العلم والمعرفة يزين منزله بالآية الكريمة:"وقل رب زدني علمًا". هكذا إذن هو يعترف بالنقص في المعرفة، وهكذا يبين لنا مدى اهتمامه وعشقه للعلم وتواضعه. ولم يكن يدور بخلدنا أيضًا أن تكون مكتبته بهذا الحجم وهذه السعة- ثلاث غرف، إحداها طولها عشرة أمتار، وعرضها أربعة، تمتلئ برفوف الكتب من الأرض حتى السقف، قد تصل الكتب والعناوين إلى خمسين ألفًا، والأهم أنها مرتبة حسب مواضيع وحسب تفريعات،هنا المجلات المجلدة: الآداب، المجلة، إبداع، الجديد، مواقف، المواكب، الشرق، الناقد، أدب ونقد، البيادر، الفجر، الأدبي، فصول، القاهرة، الكرمل الفلسطينية، الكرمل الحيفاوية، مجلة النجاح للأبحاث، اليوم السابع،فلسطين الثورة، الأقلام العراقية، عالم الكتاب، الهلال والعربي، دبيّ الثقافية، عالم الفكر، أفكار وغيرها وغيرها كثير. وهنا الكتب التراثية ودواوين الشعر القديم... وكتب نادرة ذات قيمة أدبية رفيعة، كتب في النحو واللغة، كتب فلسفية، تراثية، موسوعات،معاجم، كتب حديثة نقدية... ودواوين الشعر الحديث- مجموعات كاملة- ودواوين الشعر المحلي مرتبة هجائيًا، لا تكاد تجد كتابًا ناقصًا من كتب سميح أو حنا أو محمود أو حسين مهنا أو نزار أو سعيد عقل... الخ وهناك مجموعات نجيب محفوظ... ومجموعات روائية... وأخرى مسرحية عربية، وهناك المحليات. هناك الكتب المترجمة إلى العربية، وهنا الكتب باللغات الأجنبية، العبرية، الإنجليزية والألمانية... رحلة ..وطواف ...وانبهار ...وروعة. كان الشاعر يقدم لنا القهوة ببسمته التي تصاحبه، وكانت تبدو عليه سيماء الاعتزاز والبشاشة. قلت سأسأله سؤالا أولاً، لابد أنه كان قد سُئله مئات المرات، وقد يكون سؤالاً ساذجًا: • هل قرأت كل هذه الكتب؟ لم يرق له السؤال، فبالله كيف يمكنه أن يقرأ كل صفحة من هذه الكتب. أجاب: - هذه المكتبة هي في الأساس مراجع ومصادر، وأنا أنتقي ما قد يلزمني في كتابتي وأبحاثي ودراستي وتدريسي. • ولكن متى بدأت بجمع الكتب؟ وهل أنت مؤسسة حتى تقتني ما اقتنيت؟ - بدأ أبي- رحمه الله- في شراء الكتب الأولى، حيث كان خياطًا وتاجرًا للأقمشة والألبسة، فعندما كانت تأتي البضاعة من يافا كانت تأتي معها بضعة كتب، عرفت منها في صغري روبنسن كروزو لديفو، وفقه المذاهب الأربعة والإمامة لابن قتيبة والعمدة لابن رشيق... وفي سنة 1967 بدأت التهم الكتب قراءة وشراء، وذلك بعد أن تعرفت إلى مكتبة المحتسب في القدس، والقطب في نابلس، والطبري في طولكرم، وعصفور في جنين... وزادت القراءة...وزاد الشراء مع تأسيس مكتبة عباسي وتعرفي إلى معرض الكتاب في القاهرة. لا تسأل كيف أشتري ومن أين؟ ففي كل سفرة أعود حاملاً معي رزمة..... الكتب هي غذائي ومتعتي ونزهتي. • ولكن قد يظل كتاب واحد له أثر في نفسك، فما هو؟ - قد يعجب البعض إذ قلت إن القرآن- الذي حفظت في شبابي أكثر آياته غيبًا- هو أستاذي الأول في اللغة، فقد قرأته كله وأنا صغير اثنتي عشرة مرة. كتاب اكتشف فيه دائمًا شيئًا جديدًا، وأنا أعجب بكتاب محيي الدين درويش "إعراب القران الكريم وبيانه". وكان أستاذي الثاني المتنبي وديوان شعره، وأتحسر لأنني لا أجد الوقت لحفظه أكثر، فقد حفظت مرة ما يربو على خمسمائة بيت من قصائد له مختلفة، وهي رصيد لي يسعفني في أكثر من سياق أو مجال. ولا يظنن ظان أنني ما زلت أحفظ ما قد حفظت مرة، فالقرآن يتفلت مني أيضًا كما تتفلّت الإبل من عقالها. • هل تأثرت بالمتنبي في شعرك؟ - نعم، تأثرت به، وظهر ذلك جليًا في قصيدتي الأولى التي خاطبته فيها وأنا يافع، حيث قلت: يا أبا الطيب أنصت روحك الصغرى تغني إن يكن مجدي سماء أنت تُرسـي ومِـجنّـي لن يكون الشعر شعرًا دون أن يرقى بفني إن شعري مسكرات من دنان الخمر دنّـي • لنعد إلى المكتبة، كيف تحس وأنت تعمل فيها؟ - أصدقك أنني أحس بالعلماء والأدباء أحياء، وما اصدق الشاعر الذي قال: لنا جلساء ما نملّ حديثهم ألبّـاء مأمونون غيبًا ومشهدا يفيدوننا من علمهم علم ما مضى ورأيًا وتأديبًا ومجدًا وسؤددا وهذا الإحساس لازمني كذلك في أثناء كتابتي قصيدة "أغنية إلى الإنسان بابلو نيرودا"(ديوان غداة العناق) قلت في وصف موته وكأني أتخيل مكتبته: من يتساقط فرماد وحديد ولهيب من جمرات في مكتبة ملأى بالأصوات • هل تعير كتبك؟ متى؟ وهل ترجع الكتب إلى مقرها؟ - أصدقك أنني أعرت الكثير ولم يرجع، ولكن هذا لا يمنعني من تزويد طلاب الماجستير والدكتوراة على وجه الخصوص بالمراجع المطلوبة، فهذه مسؤولية، وأنا مضطر إلى أن أقوم بها على المستوى الأخلاقي والاجتماعي. أما طلاب الشهادة الأولى فقد خصصت بجانب المكتبة- غرفة ضيافة خاصة للمطالعة والتلخيص لمن أحب، وكنت أتمنى أن تكون لدي ماكنة تصوير ليصور من يشاء ما يشاء. • هل توافق قول الشاعر: فمعشوقي من الدنيا كتابي فهل شاهدت معشوقًا يعار - لا أوافق على الشق الثاني. أما انه معشوق فو الله هذا صحيح، فالكتاب بالنسبة لي سرج السابح، وهو أعز مكان وخير جليس، وأقرأ ما يقوله الجاحظ عن الكتاب في كتابه"الحيوان". حتى ترى مدى هذا الحب للسِّفر، فقد كتبوا فدرسنا، ونكتب فيدرسون. - فهمت أن مكتبتك معدة أولاً لأبحاثك ودراساتك، فكيف تختار المصادر؟ - أتصفحها أولاً، وأعرف موادها والفهرست ومبناه، وأسأل نفسي إن كان هذا الموضوع يهمني أم لا ؟ فإذا كان الجواب سلبًا فإنني لا أقتني الكتاب حتى ولو مجانًا، وإذا كان الجواب إيجابًا أقتنيه وبأي سعر، وإذا ترددت وكنت بين بين فإن سعر الكتاب يقرر اقتنائي أو عدمه ... - كم ساعة تخصص يوميًا للقراءة؟ - معدل قراءتي خمس ساعات، وهي تتضمن قراءة الصحف والمجلات الأدبية الكثيرة التي أكتفي بمعرفة مضامينها للإفادة منها مستقبلاً ...ويعلم الله أنني أكثر المتابعين للإصدارات المحلية، ومنها القبس التي كتبت لها بيت الشعر الافتتاحي: قبس للنور في أرجائــنا كم هدانا لسواء الســبـل يندر الكتاب المحلي الذي ليس له مكان في مكتبتي، ويندر الأديب الواعد الذي لا أعرفه إما عن طريق الورشة الأدبية التي أقمتها وشجعت فيها الكتابة الجديدة، وإما عن طريق الصحف ... - رأيت كتبًا عبرية كثيرة، هل لك أن تحدثنا عن مضامينها؟ - إن أكثرها إهداء من أدباء عبريين، ولي علاقات وطيدة مع كثير من أرباب الكلمة، فأنا نائب رئيس نقابة الكتاب في إسرائيل، ومحرر في مجلة النقابة (גג)، وأعتز باهتمامهم بآرائي وملاحظاتي رغم تباين قراءاتنا، وأكثر ما يعجبهم بي طريقة إلقائي للشعر باللغتين، فهم يغبطوننا على إيقاع الشعر العربي ...ينصتون وكأنهم في عالم سحري باهر. - معروف أنك ناقد وشاعر، بل إن المرحوم عصام العباسي سمّاك ( كشاجم ) – في مجلة الحصاد، وكل حرف من اللقب يدل على صفة، وهي على التوالي: كاتب، شاعر، أديب، جامعي، مترجم؛ وفعلاً أصدرت في الأنواع المختلفة ...ألا ترى أن هذا يبعدك عن التركز في ميدان ما معين؟ - أنا أكتب بصدق ما أحس، ولا يهمني اللون الأدبي، فليكن الأصل هو النص أو الكتابة، وليكن اهتمامنا بما يقال أولاً وأخيرًا ... فأنا قبل كل شيء ناقد، فعلي بنقد الذات قبلاً، وطبيعتي النقدية تتأتى مقالة وشعرًا وتعليقًا وملاحظة...وأما إحساساتي فتنطلق شعرًا، وقد يكون هذا ضمن دائرة النقد الشعوري. - أصدرت نحو ستة وستين كتابًا، فهل لديك نسخ من إصداراتك الأولى؟ - أصدقك لا، رغم أننا كنا أولاً نطبع ألف نسخة من كل كتاب، ولكن كان هناك من يحفل بالكتاب، من حزب أو مؤسسة أو أصدقاء. أما اليوم فمعدل ما يُطبع خمسمائة، ورغم أن عدد القراء ازداد بالضرورة إلا أن الإقبال على كتبنا قد انحسر. أود أن أشير ان عددًا من كتبي يجده الباحث في موقعي http://faruqmawasi.com
كيف ترى علاقة الصحافة في العالم العربي مع كتابنا؟
إنها علاقة المـنّ، فإذا نشرت (أخبار الأدب) القاهرية لأحدنا فذلك من باب أنهم (من فوق) ويجدر بهم مراعاتنا بين الوقت والآخر، ربما لأننا فلسطينيون، وربما للتنويع الآني ...أشعر أنهم – عامة – يعاملوننا بكثير من التعالي والأستاذية.
وكيف صحافتنا في البلاد؟
كنت أنشر في إحدى الصحف فإذا هناك من يسيء إلى مادتي تأخيرًا أو مونتاجًا أو ...والأنكى من ذلك أن أحد المحررين أضاف جملة على مقالة لي وهي من بنات أفكاره التي لا أوافق عليها ..... وهناك صحيفة أخرى يشترط محررها علي أن أرسل له بمادة مختصرة، فهو لا يخصص لي صفحة ولو كتبت ما كتبت. ولعل الآفة هي في عدم دفع المكافآت للكتاب، فطغت الكتابة المجانية، وهي فعلاً بمعظمها مجانية.
وما هو إصدارك الأخير؟ هو "البديل من العبرية"، وقد كتبتم عنه في عدد القبس- الأسبوع الماضي، ففيه شرح عن الفكرة، وتناول لمأساة اللغة العِـرْبِـيّة (أي المعبرنة) التي نلهج بها، ومحاولاتي المتواضعة للحؤول دون تيارها.
هل كتبت عن الأدب المحلي: بالطبع، فما من أديب مجوّد إلا كتبت نقدًا عن شعره أو قصته، وموادي مصادر مساعدة لطلاب المعرفة، وللباحثين.
كم نحب أن تحدثنا طويلاً عن ترتيب مكتبتك، وعن آخر كتاب قرأت، وعن أقدم الكتب في المكتبة، وعن الكتب الإنجليزية والألمانية، وعن ساعات قراءتك، وعن الكتاب الذي لا تنساه، وعن أحب كتبك إليك، وعن الكتب التي تنصح بها شيابنا وطلابنا، وعن سبل تشجيع الموهوبين، وعن التقنيات في القراءة والفيسبوك وعن .... وهذه المواضيع هامة جدًا، لكن الوقت ضيق، والحديث طويل، فلا بد من لقاء آخر، فشكرًا لرحابة صدرك واستضافتك، وتعاونك المثمر مع القبس، فقد آنس محبوك لديك نار المعرفة، فأتينا بفبس منها لنفيد منه قراءنا أعزاءنا.
- في نهاية الزيارة يحضرني قول سأتصرف فيه: يا فاروق أنت فيك الكتاب ومنك الكتاب وإليك الكتاب يا عاشق الكتاب!
- الشكر الأوفى لكم، حقًا، فأنا لا أتصور أي عالم آخر أعيش فيه دون كتاب حتى ولو كان جنة. * بإذن من صحيفة القبس - 3 كانون الأول 2014.