ما زلت أذكر ذلك اليوم من خريف عام ١٩٧٤. كعصفور أضاع سربه، أحطٌ غريبًا على كتف مستقبل مجهول. محطتي الأولى في القدس كانت "ريزنك"، مساكن الطلبة التي على جبل "سكوبس"، جبل يتّكئ على صدر "وادي الجوز" العربية، من جهة، ومن الجهة المقابلة يسد حلق قرية "العيسوية" المحاصرة بالإسمنت وشهية فاتح، كجميع الفاتحين، لا يشبع. قُبلت للدراسة في كلية الحقوق في الجامعة العبرية، بعد أن أنهيت دراستي الثانوية في ظل قرية سلّحت أبناءها بكل شيء جميل وهشاشةِ قلب يرقُّ كلّما أطلّ خيال حبيبة. قرويًا كنت؛ مصابًا بخجل الندى إن مسّته يد فجر حانٍ، مُجيدًا لأناشيد الأزقة وتراتيل البيادر، التي علمتنا كيف يكون: رقص الفراشات في الغروب، رذاذ من قمح خفيف، رائحة السمسم وغنج الصبايا الألذ من وجع. والداي، معلّمان ناجيان من خدعة ونكبة، رافقاني بفرح وكثير من الوصايا والعزّة. رحيل قروي إلى كبد العاصمة كان حدثًا وحديثًا عابرًا لحدود قرية. وصلنا القدس عن طريق باب الواد، كانت المسافة من "كفرياسيف" بعيدة والسفرة طويلة. شوارع ذلك الزمن ضيّقة. مناظر بقايا "المدرّعات" العسكرية الإسرائيلية المدمَّرة على جانبي الطريق ما زالت محفورة بذاكرتي، في المرّات التالية عرفت ما لم تقله تلك الجثث الحديدية؛ هناك في قمة ذلك الجبل، فوق تلك الشواهد، موقع اسمه "القسطل"، فيه تمكّن اليهود من "عبد القادر الحسيني". قتلوا من كان يحاول أن يمنع السقوط ليحمي القدس وبعضًا من شرف العروبة. فراشي في ليلتي الأولى كان من قلق وخوف. وحشة قاتلة تملّكتني، كنت كرضيع افتقد صدر أمّه. في الصباح تراجعت تلك المشاعر. هدوء نسبي بدأ يسكنني. عدد من الطلّاب توافدوا على غرفتي. قرّروا أن نزور القدس، هكذا يعمّد الوافدون الجدد. هبطنا من على تلك التلة، مررنا بأطراف وادي الجوز، دخلنا شارع السلطان سليمان، مشينا بمحاذاة السور، وصلنا إلى باب العامود ومنه دخلت إلى بطن التاريخ في أول رحلة غيّرت حياتي. أحببت تلك القدس. كل شيء فيها كان عربيًا كما كنت أريد، لم تكن لدي صورة مسبقة عمّا شاهدت. في الهواء روائح تتبدل بسرعة الخطى، بيد أنّها توحي بالأصالة، كلها كانت ابنة الأرض والمكان. سحرتني البساطة. ابتسامات التجّار اندفعت من الصدور ولم تتدحرج من بين رفوف البضائع. كانت القدس تلك مدينة جريحة، لكنني عندما وضعت طرف سبابتي على رسغها سمعت خطى الحياة وسمعت قلبًا ينبض عشقًا وكرامة. مشينا في أسواقها الفاتنة حتى خرجنا من باب الخليل. منطقة مأمن الله (ماميلا) كانت شاهدة على بقايا معركة. بيوت سكنها العزّ مرّة تبكي على حياء، زركش الرصاص صفحات حيطانها تاركًا للزائرين تذكارات تشي بأصحاب الهزيمة والمكان. "نو مانز لاند"، عرّفني الأصدقاء على الاسم الجديد للحي، وأضافوا أنها مناطق اتفق "العالم" أن تبقى عارية على جروحها إلى أن تحلَّ القضية. شريط المباني اليتيمة امتدّ كأمعاء بعد قيء، قطعنا حي المصرارة. ووصلنا إلى حي الشيخ الجراح حيث تربّع جاه فلسطيني. منذ ذلك اليوم بدأت حكايتي مع القدس. كانت حكاية عاشقين وحب كبير. مدينة تكره الغاصبين، على ميعاد مع فجر وعرس. "المقدسي" كان هوية وانتماءً، شخصية لها عطر ونكهة وأبعاد. في القدس أهل. "للبلد" قيادة. إسرائيل ضمّت، خططت ،شرّعت، قمعت، أغوت، باعت، نفت، اشترت، صادرت، انتهكت، أبعدت، هدمت، اعتقلت ولم تسجل نصرًا واحدًا ألغى واقعًا صارخًا واضحًا: المقدسيون لن يقبلوا، لن يعايشوا ولن يهادنوا الاحتلال. مدينة أفاقت من غفوة لابسةً ثوب فلاحاتها المطرّز وتنضح بعرق من سار على دروب آلامها، هي العروس وكل شيء طارئ، عابر ومزيف. لعقدين ونصف عشت في قلب فلسطين النابض. صار "بيت الشرق" بيتًا تبدأ منه فلسطين وفيه تنتهي. كانت القدس مدينة عصيّة على التدجين. استوعبت إسرائيل أنها لن تنجح بالزواج من عروس تنتظر ميعادًا مع حبيبها، فقررت اغتصاب عروبتها؛ حاصرتها، عزلتها. جرّدت أهلها من حق الإقامة، أغلقت مؤسساتها المدنية الوطنية، صادرت وتسلبطت على ما بقي من أرضها وبيوتها، وفق استراتيجية بناء استهدفت تقطيع أوصال المدينة جغرافيًا وديموغرافيًا. في نهاية عام ١٩٩٩ جرّبت حكومة نتنياهو إسدال الستارة وإنهاء فصول الرواية فأصدرت أمرًا بإغلاق "بيت الشرق". "فيصل الحسيني"، عاشق القدس وحاميها، تصدّى لذلك وقرّر أن يكون حرًا في بيت الشرق: حيًا أو ميتًا. انتفض المقدسيون أهلها/عشّاقها وملأوا ساحات البيت كرامةً وحجارة وغضبًا. إسرائيل انسحبت، فللبيت رب يحميه. بعد عام رحل "الفيصل"، لم تنجح المدينة بدمل الجرح الذي ما زال ينزف. إسرائيل انتهزت ما جاءها على طبق من قش عربي. ضاعفت ضرباتها وخناقها. ما حدّده "العالم" كمنطقة "نو مانز لاند" اقتلع من أساساته وتحوّل إلى أسواق ومساكن فاخرة ليهود العالم الأغنياء. منسوب الجريمة والعنف ارتفع بشكل مقلق بغياب قسري فلسطيني وبتواطؤ إسرائيلي خبيث. في الشوارع سادة جدد، الغلبة صارت لصاحب العصا. قادة اليوم أغفلوا أن القدس أكبر من أقصى "والقيامة" ترزح تحت احتلال وأكثر. نجحت إسرائيل، إلى مدى خطير، بتفتيت الوجود الجمعي للمجتمع الفلسطيني، وبمحو وتشويه شخصية المقدسي الوطني المؤمن الواثق المضحي المعاضد إلى حد مقلق. من ينقذ القدس؟ الفلسطينيون عاجزون عن أن يكونوا لها سندًا وسدًّا. العرب يغرقونها بشعاراتهم الجوفاء والكذب، "العالم" يتواطأ مع مغتصبيها، أصحاب القيامة صامتون، ابتعدوا عن درب آلام المسيح وتركوا عليه الفلسطيني يسير وعلى ظهره صليبه والجرح. من مسؤولٌ عن قيامة القدس؟ من سيطير بها للأقصى فالأقصى؟ هذا هو سؤال المرحلة.