ذا كانت الحياة هي حق مقدس للجميع، فإن الفيلم التسجيلي هو شكل من أشكال الحفاظ عليها وتجميدها في شريط نيجاتيف شفاف أو رقاقة إلكترونية، حيثُ يُصار إلى بعثها من جديد في كل عرض. فقد أعادت عروض أفلام سينما الواقع الأسئلة الكبيرة إلى سطح الحياة لأن سيناريوهات هذه الأعمال ليست انتقائية أو انتخابية مثلَ الدراما المعروفة والتي عملت على إظهار أشكالنا وسلوكنا لدرجة لم نعد حتى نشبه أنفسنا. يُمكن أن يكون أي إنسان بعينه بطلاً من أبطال هذه الشاشة العملاقة والتي كانت في يومٍ من الأيام حكراً على النجوم والمشاهير. بقدر ما يبتعد الفن بكل أشكاله عن المال ودورته الشهيرة والتي تسرُ عدواً ولكن لا تسرُ صديق، بقدر ما يكون حقيقي وخالد، فصاحب العمل يُقدم حكاية ويشير بكاميراته صوب العقل أو القلب أو الروح، ينطق كل كائن بأناه هو وليس أنا كائن آخر. لا بساطً أحمر يفترش ممرات النجوم وأصحاب المعالي والفخامة ولا إعلام ضخم ولا جمهور مفذلك يواكب هذا الحدث الثقافي المهيب. المهرجان (مرّ من هنا) كان خجولاً ومتواضعاً لا يريد أن يستفز أحداً لأنه مرعي من قبل جهتين لا يودان الاستفزاز. الذين ماتوا ولهم بصمات في هكذا نوعية من الأفلام ذُكروا على عجل ونالوا الرحمة وانتهى، فقط الجمهور والأفلام كانا يمتلكان الحقيقة ويتواطئا فيما بينهما على الإمساك باللحظة والفكرة. لقد شكّل ظلام صالات العرض (الزهراء والكندي) متنفساً للبوح والتعبير عن مكنونات الحاضرين، هو مهرجان للحقيقة ولكن من دون أسماء، الكل يتنهد ويعلق في الظلام دون خوف، لأنه يمارس حريته في الخفاء وهو لا يسئ لأحد بعينه، يستعيد ما خسره في الضوء من أمل وحلم، يُعيد صياغة الحياة من جديد، فالمتعةُ تُخرجه من السكون إلى الخلق وإعادة تشكيل الآتي. لكل امرئٍ حكايةُ تروى، تتفاوت شخصيات نجومُ هذه الأفلام بشكلً صارخ وكبير، فهذا بطل احد الأفلام يدمن الخمر لا حباً بالخمر ولكن لإحساسه بأن لا معنى لوجوده، يسرد وعيه عن العالم الخارجي ويحرق ما تيسر له من زمن عندما يسكر. وهذا يمتلك مشروعه الفكري أو الإبداعي ويفوّت عمره ومتعته كإنسان في خدمة هذا الحلم الحقيقة، يُمضي عمره كله في الدفاع عن فكرة وليس عن حيوان سينقرض قريباً إذا لم يصرف له مئات الملايين من الدولارات لتشييد المحميات وبرامج حفظ النوع. يخضعُ المشاهد في هكذا أفلام لنمطين من السرد والعرض يختلفان باختلاف البيئة التي صنع فيها الفيلم، البيئة الشرقية غنية بالألم والوله بالحياة، يُقاتل أبطالها لأن يكونوا فقط بشر أحرار، والبيئة الغربية لا تقل عمقاً إنسانياً عن طرح قضاياه وإشكالاتها هي، تبحثُ دوماً عن الممكن في عالمٍ اكتسحت فيه الرأسمالية حُلم الثورة الأولى. أظنُ بأن عروض سينما الواقع تُؤسس لمفهوم علاقة جديدة بين الفن والإنسان، لأنها تُجرد النخبة من امتيازاتهم المسبقة فيما لو نجحوا على حساب الآخرين، ولأنها لا تسعى لأن تكون بديلاً لأحد، شكراً للنوايا الطيبة والإبداعية فقط على هذا المشروع الإبداعي الذي ولدَ يتيماً ليكبر.
حسين عيطة، (سينما واقع.. أم ماذا؟!) خاص: مرصد نساء سورية