فكّر بغيرك..
أيتها الأخوات أيّها الإخوة
للمؤمنين حكمة العاجزين وحضنُ السماء بعيد، وللعاشقين ما قالته السنابل للشمس وحضنُ الأرض كفيل.
للناس قدّيسوهم ولي قديسٌ: سليم الفطرة، واسع القلب، شريف المنبت وسيم. عاشق، كما أوصت العاصفة، نبيل عفيف؛ يرق كلّما ديست نرجسة، ويبكي كلّما تاهت طفلة حرمتها الأيام حنينَها وحليبَ أم وصدرًا شفيقًا، ويثور إن ذل شيخ قست عليه الليالي وخانته بيادر العباد. صادق، وفيّ، وارف، شجاع، نقيّ ، بسيط عنيد صاخب هاديء زاهد نديم جليس أبيّ وأديب.
للناس ملائكة ولي ملاك: في رقة الماء حسوم، وكالموج لا ينام. حاضر في لحظة العطش وعند الآه شفاء ودواء وعناقيد فرح، في صفاء النبع ومثله دفاق شفيف، لا يعرف للحب نقيضًا ولا للعطاء ثمنًا، باسم كفجر، وكالليل متواضع ومثله ستّار ورفيق.
فكّر بغيرك وأنت تعود إلى بيتك، فللسماء، دائما، قول، وقولها، دائمًا، حكم وفصل، وعلينا نحن لحم ودم والخسارة والدمع. لا عدل ولا إنصاف ولا عقل، بل هو الدهر مذ كان، كان خدوعًا خلوبًا وثوبًا وغلوبًا، وكلّما حز سيّاف الزهور شريانًا من شرايننا لجأنا إلى الخديعة والسراب وأنشدنا كما أنشد النبهاء قبلنا وقلنا:
والله لا يدعو إلى داره إلّا من استصلح من ذي العباد
والموت نقّاد على كفّه جواهر يختار منها الجياد .
فافرحي يا جميلة الجميلات، يا تغريدنا الواقعية، النقية، الحريرية، العذبة، والرقيقة، فها هو الله يستصلح اليوم شيخ الفوارس وأجود الجياد، حبيبك ورفيق درب سعادتك، ويصطفيه ليؤنس وحدتَه وينعم مجالسَه ويزيد على ضوء السماء نجمة ويبدد على جلّاسها ظلمة وظلما.
لا عزاء يا حبيبة، فمن كان يحرس في الليالي جبينك ويحميه من سقوط غيمة ضالة قد رحل، ومن كان لا ينام إلا وقد حلب لعينيك ضوء القمر وملأ حياتك وردًا وعزة وشجرًا، صار عطرًا، وسيبقى رذاذًا ملائكيا، يتسلل إلى مساماتك كلما وشوش دوري على شرفة الذكرى أو عاد الربيع، أطرشَ، يذكر، عبثًا، بأول همسة ولمسة.
اليوم يا إخوتي، ويا خالي هيا وشريف وأمير، فقدت أنا قديسًا وملاكا، وأنتم فقدتم سندًا وأبًا ورفيقًا وأنيسًا، وورثتم الحزن الذي لن يبقى أسود، كما هو الآن، فنحن البشر حين استحضرنا نعمة النسيان، عرفنا كيف نصوغ من الحزن جواهر الزمان ، فالذكريات، مع حبيبكم، ستصير أسبابًا للفرح واستدعاءً لبسمة ستعلو شفاهكم، حتمًا، كلّما خطرت على البال، حادثة هنا ونهفة هناك ، واسمه سيصير مدعاة للافتخار والقلق ومسؤوليات جسام، فما تركه لكم ولنا، هذا السليم العالي الشريف، هي كنوز من السيرة الحسنة والحب والاحترام والتواضع والعطاء والتفاني، وأتمنى يا أحبائي أن تصونها وتضيفوا عليها لآلئ وترابًا وخضرة وحنينا .
بعدك، يا سليم، سيهبط منسوب الطيبة في مواقعنا، وستولد سعاداتنا مخدوشة عليلة ، وإن قالوا: الموت حق، يبقى الوجع وخازًا لئيمًا، وإن أفتوا: الموت عدل، يبقى العقل حيران سقيما.
وأخيرًا، فلقد ولد راحلنا في تاريخ ميلاد يسوع الناصريّ، ورحل في يوم انتقال العذراء إلى السماء، فللمؤمنين أن يقاربوا هذه المفارقة، إن شاؤوا، ويبتهجوا، وللحالمين، مثلي، أن يقاربوا وفاته بيوم وفاة محمود درويش، وقد أحبّه ونادمه وأسمعه تراتيل العشق والوفاء، ولك، يا من أنت من أشرف الشرفاء، ويا من نام وهو يفكّر بغيره، نقسم- " أن ننام ونحصي الكواكب، فثمة من لم يجد حيّزًا للمنام"، ونعدك أن يُبقي كل واحد منّا سعفةً من نخل أحلامك وسائد نحضنها ليصير ليل البلاد علينا أكثر أمانًا، ولتبقى ناصرتك مهدًا للوعود اليانعة وفضاءاتها مروج للظباء وللفوارس الأحرار.
فوداعًا أيّها الغالي
(نص الكلمة التي ألقاها المحامي جواد يولس في جنازة الراحل الدكتور سليم نخلة، مدير المستشفى الفرنسي في الناصرة ومدير الجمعية المسيحية العالمية والشخصية الوطنية البارزة، والذي توفي يوم 10/8/2015 عن عمر ناهز السادسة والستين، ودفن في الناصرة، تاركًا وراءه زوجةً ، تغريد بولس نخله، وثلاثة أولاد: هيا، شريف وأمير، وإرثًا وافرًا من العطاء والتضحيات).