نشرت في الآونة الأخيرة جهاتٌ عديدة بياناتٍ تؤكّد رفض هيئاتها للدعوة إلى تجنيد المسيحيين العرب المواطنين في إسرائيل إلى صفوف جيش الاحتلال الإسرائيلي.
برز من بين هذه الهيئات بعض الشخصيات الدينية القيادية في كنائسها، بينما جاء بعضها ليشهّر بموقف كنيسة كاملة من هذه القضية، فعلى سبيل المثال لا الحصر نشر مؤخرًا، مجلس رؤساء الكنائس الكاثوليكية في الأرض المقدسة بيانًا أكّد فيه أن "محاولة إسرائيل تجنيد المسيحيين العرب في الجيش الإسرائيلي تهدف لتقسيم المجتمع، ولزرع الفتنة بين أبناء الشعب الفلسطيني".
لم يحظَ بيان مجلس الكنائس الكاثوليكية بالاهتمام اللائق، على الرغم من شموليته، ورغم ما احتواه من شرح مفصّل لموقف هذه الكنائس إزاء هذه المسألة، إذ فيها رؤيتها ومفهومها لمعنى وجود الأقلية العربية المسيحية في هذه الأوطان .
إن تاريخ الأقلّية العربية في إسرائيل وصراعها مع سياسات الحكومات الإسرائيلية، منذ النكبة وإلى تاريخه، قد عرف محاولات متكرّرة لسلخ المسيحيين، من أبناء هذه الأقلية، عن انتمائهم الوطني القومي الجامع؛ فقد كان هدف الإسرائيليين، على الدوام، تغليب الهوية الدينية المجَزِّئة، بينما كانت وسيلتهم، في كثير من الأحيان، تعتمد الاستعانة ببعض أعوان السلطة الذين عملوا عبر العقود الفائتة بدوافع انحصرت فقط في إطار مصالحهم الضيقة وتبنيهم لمفاهيم خاطئة ونفعية.
أسماء عديدة من أولئك حفظتها ذاكرتنا اليافعة والشابة، أمّا التاريخ والواقع فحفظا وسجّلا فشلهم جميعًا،وفشل محاولاتهم البائسة.
ما لفت انتباهي في بيان مجلس الكنائس الكاثوليكية تُجسّده فقرة نوّهت إلى ما لا يتطرّق إليه كثيرون من الصامتين، أو من أولئك الذين يشدّدون على ظاهرة تجنيد المسيحيين العرب، بينما يغفلون واقعًا ينضح بعبثية أكثر مرارة ووجعًا.
"فالتركيز على تجنيد المسيحيين اليوم، هو استمرار لمحاولة عزل المسيحيين في مفهوم "الطائفة"، ومن ثم وضعهم في موقف معارض لسائر مكونات المجتمع الفلسطيني، مع أن بعض المسلمين كما أسلفنا قد انضم أيضا إلى الجيش. ومن ثم فإن الكلام على تجنيد المسيحيين العرب بدل الكلام على تجنيد العرب عامة (مسلمين ومسيحيين) هو محاولة للتفريق بين مسيحيين ومسلمين في إسرائيل. علمًا أن إسرائيل عاملت وما تزال مواطنيها العرب على أنهم "أقليات" دينية، وليس على أساس أنهم "أقلية قومية". هكذا جاء في البيان المذكور.
إن التصدي لكل دعاة تجنيد المسيحيين واجب وضروري، فمعالجة أسباب نجاح المُغوين والمُسقِطين، بين الشباب المسيحي، حتى وإن كان نجاحهم محدودًا، هي أهم من الاكتفاء بكيل الأوصاف على الدعاة والمحرّضين. ذلك أن الوقوف عند الحقائق التاريخية وتفاصيل الواقع أمر تتعدى أهميته أصول النزاهة والصدق، ففيه تكمن الحكمة والمقدرة على تشخيص المرض في الجسد الواحد وانتشار خلاياه المصابة، فهذه الوقفات لا تستوجب، كما يفعل البعض، برغم نواياهم الطيبة، أن يتسلحوا بخطاب تبريري دفاعي، قد يفهم منه وكأن جميع المسيحيين مشبوهين وعليهم، لذلك، صد التهم والاستعانة بمسيحية "العوّام" و"كابوتشي" أو"حبش" أو "إدوارد" و"إميل" ومن على سجلّهم من أعلام الحضارة والتاريخ والثقافة والنضال المشرقيين.
ما جاء في بيان الكنائس المذكور يؤكد عمليًا على حقيقة منطقية مثبتة في علم السياسة الاجتماعية، فكل حجّة تفتقد إلى منطقها الداخلي فإنها تفقد بالضرورة قوة إقناعها وأخلاقيتها. وكذلك فإن كلّ حجة لا تتعامل مع حالة وواقع متشابهين بصوت واحد وبمساواة تعكس تناسقًا داخليًا كاملًا، فإنها لن تؤتي ثمارها، بل تزوّد، أحيانًا، الخاطئ المخطّئ بطاقة وقوّة.
فعندما تتصدى، ويجب أن تتصدى، مؤسسات وشخصيات وحركات وأحزاب لرجل دين مسيحي أو ناشط منتفع في حزب صهيوني يدعوان لتجنيد الشباب المسيحي، وتغفل هذه الجهات نشاطًا ودعوات مشابهة لفئات أخرى ولأسباب غير وجيهة ومبررة، تضعف الحجة، وبالتالي قد يستقوي رجل الدين هذا بمكياله، فالكيل بمكيالين كان وسيظل مؤذيًا.
وإليكم ما أقصده-ففي الوقت الذي كانت الأصوات تندّد، وبحق، بما يدعو إليه بعض المسيحيين المنادين الشباب المسيحي بالتطوع في جيش الاحتلال الإسرائيلي، كانت وسائل إعلام إسرائيلية وبالعربية تنشر بالصورة والكلمة أخبارًا عن تدريبات وحدات عربية مسلمة ودرزية كاملة (مثلًا وحدة مؤلفة من مائتي مقاتل مسلم!) أجراها الجيش الاسرائيلي بهدف، تحسين أدائها الحربي، وتجهيزها لحربها على الحدود الجنوبية الصحراوية، ولقد "طمأنتنا" هذه الأخبار أن التدريبات نفذت بنجاح باهر، دون أن يتطرق إلى هذه الاخبار أحد على الإطلاقوهذا غيض من فيض، وقليل من كثير.
إذا لم يكون الصوت واحدًا موحّدًا، من حيث الزمان والمكان والهدف والوسيلة والذريعة، فسيفيق المندّدون من غفلة، وسيعودون إلى سبات، وبعدها سيفيقون صائحين منددين مجددًا في وجوه من لا قبيلة وراءه ولا عصيّ تحمي ضلوعه.
لا للتجنيد: موقف، قضية ومشروع أعقد من دعاء كاهن، فالذي سيكتفي بلفّه، مستهونًا، بثوب أسود وينام مع ضميره المرتاح، فإن عليه أن يعرف ما تعرفه صحراء الجنوب، وما تشهد عليه جبال الجليل وميادين وشوارع فلسطين التي ينام أهلها ويحلمون: أين صار الإخوة؟ هل قلت بنادق الإخوة؟!