لا يخفى على أحد الدور الأساسي الذي يلعبه المحامين/يات، ليس في توجيه مسار أية دعوى قضائية فحسب، بل أيضا في تغيير القانون، وفي رسم أفق مفتوح وجيد للمجتمع الذي يعيشون تفاصيل حياته وآلامه كل يوم بحكم طبيعة عملهم. وحتى اليوم، وبعد خمسة سنين من إطلاق الحملة الوطنية لمناهضة جرائم الشرف، ما يزال اتحادكم صامت صمتا مطبقا تجاه هذا الانتهاك اليومي لحق الحياة الذي حفظته كليا الشرائع جميعها، سماوية كانت أم أرضية. والذي لا يناقش عاقل في أنه محظور مطلق ما كان لاتحادكم، ولعملكم أي معنى دونه. فجميع الخلافات والمخالفات الأخرى هي متفرعة عن هذا الحق الأساسي. وحين يلغى الأصل، يلغى الفرع. وحين يشرع قتل إنسان، يضمن ذلك حكما تشريع انتهاك كافة حقوقه الأخرى.
29/10 اليوم العالمي للتضامن مع ضحايا جرائم الشرفالنساء السوريات، وضمنهن النساء السوريات العاملات كمحاميات، قتلن أول أمس، وأمس، ويقتلن اليوم دون أن يرف جفن للقتلة المباشرين، وخاصة للقتلة غير المباشرين الذين يشيعون في مجتمعنا العنف الهمجي، ويشجعون عليه بأسماء مختلفة كـ"الشريعة" و"صيانة الأخلاق" و.. وأنتم خير من يعرف أن القتل لم يكن يوما، ولن يكون رادعا لأحد أن يفعل شيئا. سواء كان قتلا عن طريق الدولة، أو قتلا عن طريق المجموعات، أو قتلا عن طريق الأفراد. كما أنكم/ن خير من يعرف أن ما يشاع عن "انحراف النساء" الذي يؤدي (حسب زعم القتلة ومؤيديهم) إلى قتلهن، لهو كذبة كبيرة صدقها من أطلقها، ثم صدقها بعض معدومي الضمير ممن يرى أنه يمتلك الحق بالتصرف بحياة شخص آخر لمجرد أنه خلق هو بقطعة لحم بين فخذيه، وخلقت هي بدونها! وتعرفون أيضا أن هذا "الحق" بالقتل هو ضربة في الصميم لمبدأ وجود المجتمع نفسه، ولمبدأ خضوع الناس لدولة تشكل إطارا لحياتهم ومنظما لخلافاتهم. وبالتالي فهذا الحق يسلب القاعدة الرئيسية التي تجمعنا معا وهي حصر حق العقاب بالدولة فقط، وليس بأي شخص كان، ولا لأي سبب كان. ونقل هذه الصلاحية إلى الأفراد يعني، أول ما يعني، فتح الباب على مصراعيه لكي يعتقد الأفراد أن من حقهم أن يفعلوا ذلك كلما وجدوه مناسبا. وهذا ما يحدث أيضا كل يوم ضد النساء والأطفال بكافة أشكال العنف المختلفة. ولكنه قد يحدث أيضا ضد الدولة، ضدكم أنتم، ضد آخرين.. لأن المبدأ واحد: إما أن لا يكون من حق أي فرد أن يعاقب بيديه (فكيف إن كانت تصوره للعقاب يعني "القتل"؟؟)، وتغلق بذلك كل الأبواب المتعلقة، ويحصر العقاب بالدولة التي تمثلون أنتم/ن جزءا مهما من وجودها وسلطتها، أو أن يكون هذا السلوك متاحا ومباحا لهم، وبالتالي فلا معنى إطلاقا لوجود مؤسسة القضاء برمتها، والتي تعد أعظم إنجاز للبشرية عبر تاريخها. أنتم/ن تعرفون جيدا ما تعنيه هذه الجرائم. وتعرفون أن سكينها لا توفر أحدا. كما تعرفون أن الأسباب التي ترتكب من أجلها تطال أيضا جلّ الأستاذات في نقابات المحامين في سورية، مثلما تطال كل امرأة أخرى مهما علا منصبها أو عرف عملها! بل وتكاد تطال كل رجل في سورية، مهما كانت صفته! فيما لو طبقتها النساء على الرجال! وتعرفون أن ادعاء البعض أن ذلك من الشريعة الإسلامية، أو المسيحية، أو غيرهما، لهو مجرد نفاق لا يمت للحقيقة بصلة. فمنذ متى كانت شرائع الله تدعو للقتل أو تسمح للذكور بقتل النساء لمجرد أنهم ذكور؟ منذ متى صار الدين دين قتل وعنف؟ ومنذ متى كانت العدالة، بأي من معانيها، تؤيد مثل هذا العنف والتمييز؟
السيدات والسادة في اتحاد نقابات المحامين: إن موقفكم/ن الصامت حتى اليوم بات مثار تساؤل عميق حول دوركم في المجتمع السوري. وحول إن كنتم/ن حماة حقوق مواطنة حقا! أم أن دوركم هو فقط التصرف بالقانون كما هو، مثلما يفعل أي مهني مع مادة مهنته! نحن، في مرصد نساء سورية، نؤمن إيمانا عميقا بدوركم وقدرتكم على التصدي لكل ما تراكم في قوانينا من حيف وظلم للنساء، وأشده وأكثره مدعاة للخجل هما تلك المادتان المثيرتان للخجل بكل معنى الكلمة. وما تسميتهما بـ"المواد العار" سوى توصيف لما هو واقع. ونحن على ثقة أنكم أنفسكم/ن تخجلون من ذكرهما لو كنتم في إي إطار علني أو خارج سورية. ونثق أنكم ترفضون تبرير ذلك بدوافع مثل "الشرف" أو "الغيرة" أو ما إلى ذلك.. فلم يكن القانون يوما إلا ليرتقي بالإنسان نحو المزيد من إنسانيته، لا ليدعمه بانحطاط هو الأشد عبر منحه سلطة إنزال العقاب، سلطة القصاص! إن النساء السوريات اليوم، بل المجتمع السوري، بحاجتكم حاجة ماسة لتخرجوا من حالة الصمت تلك، ولتتخذوا الموقف الذي يجدر بكم/ن أن تتخذوه من أجل مجتمع خال من العنف والتمييز. فكما بتم تعرفون اليوم: العنف هو دائرة لا تستثني أحدا من آثارها المدمرة، ضمنا ممارسي العنف أنفسهم. والنساء السوريات يضعن اليوم أملا فيكم/ن أن تقفوا صفا واحدا من أجل إلغاء تشريع القتل الصريح المثبت في المرسوم 37 لعام 2009. فأي مجتمع هذا وأية شراكة تلك، بل أي عدالة من أي صنف تلك التي تشجع الرجال على قتل النساء خضوعا لغريزة هي من أحط الغرائز على وجه الإطلاق؟ غريزة "الغضب"؟ وكم منكم/ن ومنا كان يمكن أن يكون متعفنا تحت التراب اليوم لو أن التصرف بناء على هذه الغريزة اعتبر حقا شخصيا مثلما هو معتبر في هذا المرسوم؟ وكم هو غريب أن تبقى سورية اليوم، سورية القرن الواحد والعشرين، تسمح للقتلة ومن يحرضهم على قتل النساء السوريات، على قتل أمهاتكم/ن وأخواتكم/ن وبناتكم/ن، بل شريكاتكم/ن في الوطن والمواطنة.. عبر المادة 192 التي تعرفون حق المعرفة أنها تكاد لا تطبق إلا لوضع أوسمة الشرف على صدور هؤلاء القتلة الذي يحتفلون، ومن معهم، بغمس أياديهم في دم النساء السوريات؟ كيف لكم، يا من تمثلون حقوق الناس التي لا قيمة لها دون حق الحياة، أن تبقوا صامتين بينما يعلوا صراخ النساء غارقات بدمائهن؟ كيف لكم أن تناموا في أسرتكم بينما "تنوم" النساء السوريات إلى الأبد؟ كيف يمكنكم أن ترتدوا عباءاتكم في قاعات المحاكم بينما يسيل دم النساء السوريات بسكين قانون العقوبات ذاك الذي تعملون به؟ لكل ذلك، ولإيماننا أنه بإمكانكم أن تتخذوا الموقف الصحيح بعيدا عن تضليل المضللين باسم الإنسان أو الأخلاق أو الدين...، الموقف المنسجم تماما مع إنسانيتنا جميعا، الموقف الذي لا يستثني جريمة فيطوبها بطولة، الموقف الذي يقول لا لجرائم اللاشرف تلك، لا للمادة 192، ولا للمرسوم 37.. لكل ذلك ندعوكم/ن لاتخاذ موقف صريح وواضح وعلني.. فلم يعد هناك اليوم موقف على "الحياد" بعد أن تكشفت كل الحقائق، وبعد أن سقط كل النفاق والتضليل حول علاقة الأخلاق بالقتل... إما أن نكون ضد هذا العنف الهمجي، أو نحن معه! فأيهما سيسجل في تاريخكم/ن؟!
بسام القاضي، افتتاحية مرصد نساء سورية، (رسالة مفتوحة إلى اتحاد نقابات المحامين في سورية) خاص: مرصد نساء سورية