في مقالتين متتاليتين، كتب محمد أسعد كناعنة، من أسره في السجن الإسرائيلي، ملاحظاته حول ما كان عليه شاهدًا ومشاركًا في إطار القيادة الأهم القائم بين الجماهير العربية في إسرائيل.
من زنزانته، حيث يدفع فاتورة السرو للريح، جاءت شهاداته مسامير لن تبقي موطنًا إلّا والوجع يسكنه والدم. "لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية"، كانت فكرةً أملتها الحاجة والخوف من قعر البئر وحوّلها الفقراء ترسًا في وجه الفولاذ. أداة أعدّتها نسور ذلك الزمن لتلائم ما يجيده النسر من ريادة للقمم بعيدًا عن بغاث الطير ومنافسة الثعالب. مضت السنون وكل شيء حال وتدوَّر، فلا سماء الشرق رعت أقمارها والبيد هي ذات البيد، أمّهات صالحات يلدن كثبانًا وسرابًا، فحولًا، بطونًا وأفخاذًا. "ليلى" لم تزل "أسماء"، فريسة لآكلة اللحم وحكم القبيلة وقيس ما زال ينوح و يموء. ما حسبناه ماضيًا دَرَس وانقضى يباغتنا كطاعون أو يردينا كداهية ونحن القوم النؤوم.
"أبو أسعد" يكتب من بيت الشقاء بلغة تنضح أدبًا وتتداعى مهاميز على أجساد أخشى أنّها لا تحس. ما كتبه وسيفعل، يرضي رهطًا وسيغضب أرهاطًا، ولكن يبقى حقه مكفولًا ورأيه مسموعًا وتبقى دعوته لكل ذي موقف مغاير أو صاحب اعتراض أن يدلي، بحجّته ويرمينا ببيّنته.
في الماضي كتبت، ومثلي فعل كثيرون، حول ما تبقى من حلم واسم "لجنة المتابعة العليا" واليوم أزداد قناعةً بوجوب معالجة هذه المسألة بكل مسؤولية ونضج وشفافية. فالقضية الأهم والتي يجب أن تحسم بين المعنيين والقيادات على مشاربها وشعابها تتعلٌق بالمفهوم الأساسي لدور هذه اللجنة والأهداف التي من أجلها شكّلت. وكذلك حول السؤال فيما إذا ما زالت هنالك حاجة لوجودها وعملها بالشكل والأداء القائمين.
ما جاء في المقالين، وفي عدة مقالات لكتّاب سبقوا، يعيد ويبقي أسئلة البدايات حيّةً وكأنّ الزمن توقّف في عام النكبة. تأتي الصياغات في أشكال متعدّدة وأحيانا يتوهّج القصد واضحًا كالنار ولكنّه يكون مقنّعًا بطروحات أخرى فيغتال الطريق وتنتصر المتاهة وتتاح التهجمات التي لا تخدم جوهر القضية والمسألة. فمن الواضح أن هنالك فرقًا مبدئيًا وجوهريًا بين لجنة متابعة عليا يريدها البعض برلمانًا منتخبًا للفلسطينيين في إسرائيل، وبين لجنة عليا تكون بمثابة إطار تنسيقي تمثيلي لأحزاب وحركات وأجسام قائمة أو وهمية بين الفلسطينيين في إسرائيل.
الإشكال إزاء جوهر اللجنة العليا للجماهير العربية هو الوجه الآخر لموقف حركة أبناء البلد التقليدي فيما يتعلّق بقراءة الحدث التاريخي الذي أدّى إلى نكبة فلسطين في عام ١٩٤٨. للأمانة أقول إن حركة أبناء البلد ما زالت على مواقفها التي حملتها منذ البدايات وكانت مثارًا للاختلاف والنقاش مع من آمن ودعم مواقف الحزب الشيوعي وبعده مواقف الجبهة الديمقراطية للسلام، لا سيما في السبعينيات.
انتصار الحركة الصهيونية في حربها على فلسطين وما أفضى إلى إقامة دولة إسرائيل لم يحظ، ولا يحظى لغاية اليوم، باتفاق، حول العوامل التي أدّت لوقوع النكبة في ذلك الزمن اللعين. إسرائيل دعيت في حينه بالدولة المزعومة وذلك من باب نفي شرعية تأسيسها ونفي حق اليهود المدّعى بتقرير مصيرهم كشعب على تراب فلسطين.
إن مسألة هوية لجنة الجماهير العربية العليا نابعة من الاختلاف الأول، فمن يريد برلمانًا منفصلًا للعرب في اسرائيل ما زال يؤمن عمليًا بأن لا شرعية لهذا الكيان الغاصب، ولذا لا تشارك حركة أبناء البلد بانتخابات الكنيست.
موقف محمد كناعنة وحركة ابناء البلد واضح، ويختلف مثلًا عن حزب "التجمع" المركب من فريقين كانا على طرفي المعادلة الأساس، فبعض قادة الحزب هم من شبيبة الحزب الشيوعي الإسرائيلي سابقًا ونشطاء عتاة في الجبهة قادوا المواجهات الرئيسية في تلك الأعوام مع من كانوا قادة في حركة ابناء البلد وتركوها لصالح حزب اختار ان يخدم جماهير العرب من منصات الكنيست. ولذا يدعو الحزب ويشارك في برلمان الدولة وينبئنا قادته، بتناقض واضح، انهم سيقاطعون برلمانه من داخل البرلمان!
مما لا شك فيه أن قضية قبول شرعية دولة إسرائيل كانت قضية خلافية أساسية بين كل من عرّف نفسه بقومي عربي وبين الشيوعيين تحديدًا والذين اضطروا لإعادة النظر ببعض من مواقفهم ازاء اسرائيل وتعريفها ككيان ودولة.
واليوم، إذ يطل هذا النقاش مجددًا بوجوهه المختلفة، يحتم التطرق اليه بشكل عقلاني ومسؤول ليصل الى الشعب مبسّطًا وقابلًا للهضم والتفاعل معه. فلا يعقل أن يطرح هذا الموضوع في قوالب تكوينه الأصلية دون أن يؤخذ ما تغير وتبدل وكبر وصغر في العالم والمنطقة وعندنا بالحسبان.
فبعيدًا عن حق كل فلسطيني وانسان أن يؤمن بانتفاء الشرعية عن اسرائيل وبعيدًا عن اخفاق التعريف الشيوعي، كما يتهم البعض، بتعريف منظومة الحقوق والانتهاكات في البدايات وبعيدًا عن صراع الخطابات المؤسسة، سواء تلك التي شربت من ماء السماء أو تلك التي غمّست بدماء كارثة أو دماء نكبة، بعيدًا عن كل هذا وذاك، ألا يحق للسائل أن يسأل: من المستفيد من تقديس الضحية وطهارة بكائها وأنينها؟ وكي لا أصحي جوقات الهجاء الجاهزة، أوضح أنني أعترف بان ما قامت به الحركة الصهيونية وما ظفرت به لاحقًا يعرّف كاعتداء صارخ على شعبي واغتصاب لأرضي ولذا كان فاقدًا للشرعية القانونية ولكن ذلك لن يمنعني من أن أسأل: ما فائدة ذلك واليوم إسرائيل هي دولة بما عندها ولها والعالم، كل العالم، قبلها ويتعامل معها كما تشتهي وكما لا نشتهي؟ كيف يفيدنا ذلك في معركتنا للبقاء على أرضنا؟ أسأل وأقرأ لمحمد كناعنة وأنحني، فمداده سواد الليالي ووجعه وجع العاشقين والصبح له وعد وموعد. فلكم قال عاشق متحرّق: "لا لون في عمرها الأشجار تحمله/ إلّا ويظهر فيها وهي تحترق". وما المرء إلّا بأكبريه.