نفت الإدارة العامة للاتصال والتواصل في مكتب الرئيس محمود عباس تلقّيها لأي طلب مكتوب أو هاتفي من قبل النائب إبراهيم صرصور لعقد لقاء بين الرئيس والنواب العرب في الكنيست ومع ممثلين عن أهالي أسرى الداخل. جاء بيان الرئاسة الفلسطينية بعد أن نشر مكتب النائب إبراهيم صرصور بيانين ناريين متتاليين هاجم فيهما الرئيس عباس بشكل غير مسبوق، متخطّيًا، برأيي، حدود اللباقة العامة وتلك التي يجب أن تسود بين الإخوة.
في بيانه الأول حَمَل على الرئيس عباس ملصقًا بجبينه وصمة عار لأنه آثر استقبال المغنية العربية "أصالة" على حساب لقاء بينه وبين نواب عرب في الكنيست الإسرائيلي وأهالي أسرى الداخل. جاء البيان حادًا مليئًا بالسخرية الموجهة للرئيس عباس والمبطنة بحق "المجاهدة الكبيرة أصالة مع احترامه لنضالها ألذي لا ينكر في مشروع تحرير القدس وفلسطين!". لم تخبُ الدهشة من قسوة ما جاء في بيان "أصالة" حتى نشر بيانًا ثانيًا يحمّل السلطة عارًا بسبب خلو الدفعة الأولى من الأسرى المحررين من مقدسيين وأسرى الداخل. وكعيّنة نورد بعضًا مما جاء في البيان: "انفراد إسرائيل بتحديد الأسماء عار في جبين سلطة رام الله وإعلان إفلاس واضح واستسلام مهين وفشل ذريع ومريع .."
عهدي بالنائب إبراهيم خطيبًا لبقًا مفوّها وناقدًا لاذعًا، عند الضرورة، متزنًا، لا يتخطّى حدود اللباقة ولا يستهويه التقريع الساخر، ولذلك أفترض أن الدواعي لهذه الهجمات على الرئيس عباس و"سلطة رام الله" مردّها أسباب سياسية تولّدت بعيدًا عن الحدثين موضوعي البيانيين، وتحديدًا إثر ما جرى بمصر وموقف السلطة الفلسطينية إزاء تلك التطورات.
لم أستوعب ما هو الرابط بين استقبال الرئيس لمغنية عربية جاءت لتقف مع فلسطين وشعبها في زمن كثرت فيه الخناجر وتوحّدت قبضاتها "هلالًا وصليبا" وبين لقاء "ماطل" الرئيس بعقده وهي حقيقة نفاها مكتبه جملة وتفصيلا.
زيارة "أصالة " لفلسطين ليست موضوعنا هنا وعليه لا أرى ما يبرر هذه الهجمات القاسية على الضيفة والمضيف، فهنالك ما يكفي من وقت وفرص لتحديد ما يستوجب من لقاءات ومهام على جدول أعمال الرئيس ووفقًا لما يتيحه الوقت وأولويات العمل السليم، فمثلًا الرئيس التركي وفي خضم مشاغله ومسؤولياته الخطيرة والهامة، وجد وقتًا ليقابل المغني البريطاني ونجم السبعينات "يوسف إسلام" أو كما كان اسمه قبل إسلامه "كات ستيفنس"، وهذا جاء في خضم أحداث جسام تشغل أجندة النظام التركي ورئيسه بزيارة تستهدف جمع التمويل لبناء مسجد جديد في جامعة كامبريدج في إنجلترا. لم تقم الدنيا في برلمان تركيا ولم تَثر "الشوشرة" هناك، فلكل مقام مقال!
ومن أصالة إلى الأصول ؛ من عرفوا بأسرى ما قبل أوسلو هم فئة من أسرى الحرية الذين لم يشملوا في جميع صفقات الإفراج منذ توقيع أوسلو وحتى "صفقة شاليط" التي نفذتها "سلطة غزة" ولذلك نعدل إذا تساءلنا: من كان منكم أيٌها الفلسطينيون بلا هذه الخطيئة فليرم "سلطة رام الله" بعار وحجر. هذه الفئة مكوّنة من مائة وأربعة أسرى يعكسون من حيث التركيبة الفصائلية واقع من تصدر النضال ضد الاحتلال في بداية التسعينيات وكذلك فلسطين غزة والضفة والداخل. الاتفاق الذي أصر عليه الرئيس عباس والمفاوض الفلسطيني يشمل جمعيهم كفئة واحدة. قبول إسرائيل ، هذه المرّة، بالإفراج عنهم شكّل سابقة هامة في تاريخ التعامل مع قضايا الحركة الفلسطينية الأسيرة.
المخاوف التي يبديها البعض حول تنصّل إسرائيلي جائز من تنفيذ استحقاقات الصفقة بالكامل، هو تخوّف مبرر ويعزّزه ماضي إسرائيل، ولكن أليس من الأجدر أن نتريّث ليفرح المحرّرون وأهلهم أولًا وننتظر وصولنا الجسر في المحطة القادمة.
للحقيقة، عندما أسمع من يشكك بالصفقة ويكيل الاتهامات للرئيس والسلطة يعتريني شعور أن بعض "الهجّامين" يصلّون كي تنكث إسرائيل عهدها ليثبت هؤلاء أن الرئاسة فرّطت وأخطأت وليتحالوا بصحة نبوآتهم مرددين "مش قلنالكم".
للتاريخ والموضوعية، وكمن يعرف بعض الدقائق في هذه القضية، سمعت وكنت شاهدًا في الآونة الأخيرة على اتصالات مكثفة مع الرئيس عباس وطاقم المفاوضين ومن ضمنها لقاؤه مع نوّاب عرب (بركة، الطيبي وهو زميل النائب إبراهيم في القائمة الموحدة وأخشى أن تكون هذه اللقاءات وراء غضب النائب ابراهيم!) وفي بعضها شاركت عائلات أسرى. لقد حرص الرئيس أن يطلع مسؤولين ومؤسسات تعنى وتتابع قضايا الأسرى على مدار الساعة بمجريات هذه القضية أوّلًا بأول.
بعيدًا عن ما أثار لدي بيان النائب إبراهيم من دهشة، أستطيع القول أن استعداد القيادة الفلسطينية لتحويل قضية الأسرى لقضية تتصدّر مطالب السلطة في كل لقاء ومحفل يشكل تغييرًا جوهريًا يستحق الدراسة والتقييم على جميع الأصعدة والاتجاهات.
مخاوف النائب إبراهيم وغيره، كما قلنا، مبررة ولكن لماذا هذه النيران في وجه من أصرّ، بخلاف كل من نجح في الماضي ومن فشل، على ضرورة الإفراج عن هذه المجموعة من مناضلين دفعوا لفلسطين زهرات العمر وذلك لخلل كاد أن يصير قبرًا. وكأنّه يستعجل هو فشل الرئيس؟
لقد رافقت بعضًا من أسرى ما قبل أوسلو وزرتهم في سجونهم، أعرف ما يعتمل في نفوسهم وكيف لا ينامون الليالي. اتركوهم يعانقون الحرية كما حلموا منذ عقدين وأكثر. في فلسطين كل شيء قد يكون بضاعة في أسواق السياسة والسياسيين إلّا هؤلاء فحرام أن يصيروا! من أجلهم صلّوا معي كي "يربح" الرئيس هذه المرّة.. فالقضية أبعد من "أصالة" وللقضية أصول! أو كما قالت جداتنا يا سعادة النائب "القصة مش على رمّانة القصة قلوب مليانة".