تجربة “الدنان” لإكساب الطفل الفصحى بالفطرة قد تكون الحلّ
صاحبُ هذه التجربة الرائدة، إكساب الطفل في سنواته الأولى العربية الفصحى بالفطرة، في عدّة بلدان عربية كالسعودية والكويت وسوريا والبحرين والأردن ولبنان ودبي والإمارات العربية المتحدة ومصر هو الدكتور الفلسطيني (صفد 1931) عبد الله مصطفى الدنان، المقيم في سوريا. الأستاذ الدنان مُجاز في الأدب الإنجليزي من جامعة دمشق وحاصل على الماجستير في التربية من جامعة لندن وحائز على شهادة الدكتوراة في اللغويات التطبيقية من جامعة لندن أيضا. مارس رسالة التربية والتعليم في مختلف المؤسسات التعليمية أكثر من نصف قرن وله بحوث لغوية ونتاج روائي وشعري وقصصي، وتحمل سلسلة قصصه للأطفال الاسم “الحيوانات تفكر”. وهو المقتنع بأن الفشل في تعليم العربية الفصيحة، كما قال آخرون كثيرون من قبله ومن بعده، لا ينبع من صعوبتها بل من مناهج تدريسها، واسمه مقرون بالبرنامج التلفزيوني المعروف “افتح يا سمسم”.
بدأ تطبيق نظريته هذه، نظرية إكساب الطفل العربية الأدبية بالفطرة والممارسة، على ولديه في البيت وقد ملكا ناصيتها وهما يافعان. تستند رؤية الدنان في تعليم العربية الفصحى للطفل إلى الحقيقة العلمية القائلة إن للأطفال حتى سنّ السادسة قدرة فطرية ضخمة لاكتساب المهارات اللغوية. كشف علماء لغة معروفون منذ نصف قرن مثل تشومسكي وإرفن ولينبرغ عن تلك الطاقة الخلاقة في دماغ الطفل في تعلم اللغات وإماطة اللثام عن المنظومة القواعدية بشكل ذاتي داخلي ومعقّد. دعا نوعم تشومسكي هذه الطاقة الفطرية أو النظام في المخ لاكتساب اللغة باسم Language Acquisition Device , LAD، وفي مقدور الطفل إجادة لغتين أو أكثر في آن واحد إذا ما تواجد في ظروف طبيعية لاستعمال هذه اللغات بشكل دائم. يقوم الطفل كلغوي صغير باستخدام غير متناه لوسائل متناهية كما قال ولهلم هومبولدت (١٧٦٧-١٨٣٥). ومن المعروف أن هناك خصائص عديدة مشتركة في كافة اللغات البشرية وهذا ما يُدعى بالقواعد العالمية Universal Grammar. ويتمتع الطفل بقدرة خارقة في تمييز أصوات الكلام وفونيمات مختلفة في جميع اللغات. وفي المخ البشري منطقتان خاصّتان بالكلام، منطقة بروكا (P. Broca, 1824-1880) المتحكمة بانتاج الكلام والاستماع والقراءة والكتابة وهي لدى قرابة 95% من الناس موجودة في الفص الأيسر من المخ. والمنطقة الثانية، فيرنيك (C. Wernike, 1848-1904) تُعنى بفهم الكلام وتفسيره وتحليله. ومن الممكن لطفل في السادسة من عمره أن يحصل على ثروة لغوية تضمّ خمسة عشر ألف كلمة، بواقع تسع-عشر كلمات يوميا.
وهناك خمس مراحل أساسية في اكتساب اللغة: الهديل في عمر ستة أشهر؛ إصدار أصوات مختلفة في عمر تسعة شهور؛ تفوّهات بكلمة مفردة في عمر سنة؛ كلام برقي، بضع كلمات مفككة، بدون روابط، ابن حوالي عامين؛ كلام عادي في جيل خمس-ست سنوات. ثلاثة أرباع لغات العالم تسير وفق النظام النحوي SVO أي فاعل/مبتدأ ففعل فمفعول به واللغات الباقية منها ما يسير وفق SOV، ومنها ما ينهج نهج VSO أو VOS، أما OSV فنادر جدا. وهناك تقسيمات أخرى للغات العالم منها التقسيم الثلاثي: لغات متصرّفة؛ لغات لصقية أو وصلية؛ لغات غير متصرفة. وكان جيروم برونر قد أضاف على نظرية تشومسكي المذكورة “العامل المساعد” وهو حيثيات اكتساب الطفل للغة Language Acquisition Support System, LASS، أي نظام الدعم في اكتساب اللغة، ثم بعد ذلك أشار مثلا جون ماكنمارا إلى وجود قدرة فطرية لدى الطفل للتعبير عن أوضاع مجتمعية. يمكن تشبيه عملية اكتساب اللغة أي التحدث بها بعملية المشي لا بعملية القراءة.
وقد أشار لينبرغ إلى أن هذه القدرة اللغوية الفطرية تأخذ بالضمور والانحسار بعد السن السادسة وتتلاشى قريبا من سنّ البلوغ، حيث تأتي مرحلة منصبّة بمعظمها على اكتساب المعرفة. بعبارة أخرى، بعد عمر الست سنين يحتاج الطفل لبذل جهد ملحوظ في عملية تعلم اللغة وغالبا ما تكون عبر برامج دراسية منتظمة وطويلة. ويطلق عادة على اللغة التي اكتسبها الطفل في السنوات الست الأولى بـ”لغة الأم” ويتم هذا التحصيل العفوي دون لأي أو تعب بعكس ما يحصل بعد هذه السن. وللغة الأولى تأثير سلبي في مرحلة تعلم اللغات الأخرى نحوا وصرفا. صفوة القول، لغة الأم لدى كل عربي هي لهجة معيّنة وما أكثر هذه اللهجات في عالمنا العربي، أما الفصحى فليست لغة أم أي عربي بالمعنى المتعارف عليه لهذا المصطلح. إنّ اللغة أهمُّ ما أبدعه الإنسان حتى الآن وهي نشاط اجتماعي وتنمّ عن نمط سلوكي وهي رموز وأعراف لمعان تكتسب لتغدو مهارة بل وملكة راسخة.
واقع التلميذ العربي على ضوء هذا الأساس العلمي النظري لافت حقا للانتباه والتفكير. يلتحق هذا التلميذ بالصف الأول بعد إتقانه للهجته الخاصة بأهله وبمكان سكناه إلا أن هذه اللهجة ليست وسيلةً لاكتساب العلم والمعرفة وفق المناهج التعليمية الرسمية وينبغي عليه تعلم لغة تختلف كثيرا عن لهجته تلك، العربية الفصيحة. وضعُ هذا التلميد صعب، إنه معاكس لطبيعة الخلق، قدرته الدماغية لتعلم اللغات آخذة بالتناقص زد إلى ذلك الحاجة الملحة لاكتساب أصناف مختلفة من المعرفة في مواضيع كثيرة كالحساب والطبيعة والدين والموسيقى والرسم. بعبارة موجزة على ابن العرب أن يتعلم المعرفة ووسيلتها، اللغة، في آن واحد في حين أن أطفال الشعوب الآخرى يكرّسون اهتمامهم الرئيس في تحصيل العلم والمعرفة. وقد قيل “إن التلميذ العربي يشبه الصياد الذي ذهب إلى البحر ونسي شبكة الصيد”. وهذا الازدواج اللغوي العميق، اللغة المكتوبة واللغة المنطوقة يرافق الانسان العربي وينغّص حياته التعليمية فترة طويلة من عمره وقلما تغدو الفصحى لغة أم، بعد هياض ومياض. اللهجة تستخدم لغة تواصل وشرح للمادة التدريسية ويُلجأ للفصحى عند القراءة والكتابة. يشرح المعلم المواد التدريسية بالعامية لأنه أوّلا وفي الغالب الأعمّ لا يتقن اللغة الفصيحة وثانيا بغية إيصال المعرفة للتلميذ الذي لا يعرف الفصحى أيضا، ويتخبط التلميذ بين محاولة فهم المادة من جهة والقدرة على التعبير عن ذلك بالفصحى، كما يُطلب منه من جهة أخرى، وكثيرا ما ينتج عن مثل هذه الظروف الضاغطة والمحبطة حفظ المادة عن ظهر قلب (بصم) دون فهم قسم كبير منها. يعاني الطفل العربي من صعوبة في فهم المادة بسبب اللغة ومن صعوبة في التعبير عن هذا الفهم الجزئي وغالبا ما يولي طريقة التعبير أهمية كبرى على حساب المضمون، ومن الأقوال الشائعة، على العربي الفهم أولا ليقرأ بشكل سليم ثانيا بعكس معظم شعوب العالم. وهذه العلاقة غير الودية ما بين التلميذ منذ نعومة أظفاره والكتاب أي اللغة المكتوبة، تنمو وتتفاقم لتصل إلى ما نلمسه بأم أعيننا في يومنا هذا، "أمة إقرأ " لا تقرأ وإن قرأت فبالأذنين. ومن البدهي أن حفظ المادة غير المقرون بالفهم والتفكيك والتحليل لا يتمخّض عنه نمو منطقي ومعرفي واسع وعميق ومستديم، لا تذويت معرفي. وهناك بعض البحوث التي تربط ما بين الضعف العام في الرياضيات وضعف الطلبة في اللغة العربية الفصحى. بعبارة قصيرة، فهم المقروء معضلة تربوية جوهرية يعاني منها الطالب العربي حتى بعد المرحلة الثانوية ولا بد من بحث هذه النقطة بشكل شامل ودوري والعمل على إيجاد الحلول الناجعة للقضاء على هذه الظاهرة المؤرقة.
على ضوء هذا يرى الدكتور الدنان ضرورة استغلال القدرة الفطرية الطفلية في اكتساب العربية الفصحى قبل سن السادسة. وكان الدنان قد قام بهذه التجربة الرائدة على ابنه البكر “باسل” عندما كان ابن أربعة أشهر في بدايات العام 1978، أي مخاطبته بالعربية الفصيحة المشكولة أواخرُها أيضا في حين تحدثت الوالدة إليه بالعامية الدمشقية، لكل شخص مقال. ولوحظ أن الابن بدأ بالاستجابة للكلام الفصيح فهما عندما بلغ عمره عشرة أشهر. ولدى الوالد اثنا عشر شريطا مسجّلا. في سن الثالثة كان باسل قادرا على التواصل بالفصحى دون أخطاء وهناك شريط فيديو يؤرخ لهذه الفئة العمرية وفي مرحلة الصف الثاني كان باسل قد قرأ ثلاثمائة وخمسين كتابا طفليا. واستمر الدكتور الدنان بتجربته اللغوية الجريئة هذه مع ابنته “لونه” التي تصغر أخاها بأربعة أعوام وتكللت التجربة هذه بالنجاح أيضا. هؤلاء الثلاثة يتحادثون مع بعضهم البعض بالفصحى أما مع الآخرين فيستعملون العامية. تجربة الدنان هذه تذكّرني بما قام به المحيي الرئيس للغة العبرية الحديثة إليعزر بن يهودا (1858-1922) في أواخر القرن التاسع عشر في فلسطين مع ابنه “إيتمار” (كان اسمه أوّلا بن صهيون، 1882-1943) المعروف باللقب “الولد العبري الأول”، تكلم بالعبرية الحديثة بعد أن كانت لغة مكتوبة (ميّتة) مدة سبعة عشر قرنا من الزمان. وإيتمار المقدسي المولد كان نشيطا في الحركة الصهيونية وزاول مهنة الصحافة وكان له الفضل في صياغة كلمات عبرية جديدة مثل ما معناه بالعربية: استقلال، سيارة، صحفي، لاسلكي، سياسي، مظلة/شمسية، سابقة.
يتكون برنامج الدنان لتدريب المعلمين والمعلمات للتحدث بالفصحى من عشرة محاور تشمل مختلف الأنشطة والمواقف الحيوية داخل الصف وخارجه وتستغرق مدة التدريب ثلاثين ساعة فقط موزّعة على خمسة عشر يوما. يبدو لي أن إعداد جيّد لمدرسي الفصحى يحتاج إلى وقت أطول بكثير أولاً وإلى لقاءات دورية منتظمة للتقييم والتطوير والاستفادة من التغذية الراجعة ثانيا.
أسّس الدنان “دار الحضانة العربية” بالكويت في أواخر الثمانينيات من القرن العشرين ثم “روضة الأزهار العربية” بدمشق عام 1992 ولغة التواصل ما بين المعلمات والأطفال هي الفصحى. وتشير التقارير التي أعدّها باحثون ومربّون من أقطار عربية كمصر والمغرب والأردن وأخرى أجنبية كالولايات المتحدة وإنجلترا إلى نجاح هذه التجربة نجاحا باهرا (أنظر أطروحة جيل جينكنز، أدناه) وتنادي بتشجيع تعميم الفكرة. ثمرة هذا الجهد الدؤوب تظهر في أشرطة فيديو وقد حصل الدنان على ثلاث جوائز ذهبية في أواخر التسعينيات من القرن الماضي من اللجنة العلمية السورية لتقويم المبدعين وقامت روضات أخرى في دمشق باتباع نفس النهج.
لا ريب أن اتقان العربية الفصيحة في المرحلة الابتدائية يحمل في طياته جوانب إيجابية عديدة مثل تقليص عدد حصص العربية وتخصيص هذا الوقت واستغلاله لتعليم مواد أخرى كالرياضيات والحاسوب واللغة الأجنبية والعلوم، خلق علاقة محبة وطيدة بين الجيل الناشىء ولغته، عنوان هويته وثقافته وعزته، تعلم ذاتي متقدم وحب المطالعة وتكوين الذوق الأدبي ورعايته وتسريع عملية اكتساب العلم والمعرفة وتذويتهما.
للمرحلة الابتدائية أهمية قصوى في إكساب فلذات أكبادنا ناصية اللغة العربية، العروة الوثقى بين العرب، فهي موحِّدة واللهجات القطرية مفرِّقة. واللغة أهم مشكل فلسفي فهي صورة من الوعي التفكيري وتحقق إنسانية الإنسان. ومن المعروف أن الأسلوب التواصلي الوظيفي هو الأنسب والأحدث في تعلم اللغات ويدعى هذا النمط من التعليم بما يمكن تعريبه بـ”الاستغراق” أو “التغطيس” اللغوي، استخدام لغة الهدف على الدوام ومع الجميع وفي كل الظروف والحيثيات داخل الصف وخارجه طيلة الدوام المدرسي الرسمي. بعبارة واحدة ربط اللغة بالواقع المعاش بكل تجلياته. “السماع أبو الملكات اللسانية” كما قال عالم الاجتماع الفذّ عبد الرحمن ابن خلدون قبل زهاء ستة قرون من الزمان.
يولد الطفل ولديه، كما أسلفنا، القدرة العقلية الهائلة لبرمجة داخلية لقواعد اللغة أو اللغات التي يسمعها مرارا وتكرارا، وهذا يذكّرنى كيف أن ابني البكر وهو في سنيه الأولى صاغ الفعل “أوكُل” كفعل أمر من الفعل “أكل” غير العادي في تصريفه ومن يبحث في “الكتاب” لسيبويه يجد هذه الصيغة في ذلك الزمن الغابر، القرن الثامن للميلاد. عبر ما يمكن تسميته عملية التقليد والخطأ والتصحيح والغربلة الداخلية لدى الطفل تُكتسب اللغة دون التفكير بالفاعل والمفعول والجار والمجرور والناصب والمنصوب والعلة والعامل الخ. هذا يشبه ما رواه الأصمعي عن جارية سمعها تقول وهي تحمل قربة ماء ثقيلة: “يا أبتِ أدرك فاها قد غلبني فوها لا طاقة لي بفيها”. إذا صدقت هذه الرواية (فيها تصنع) فإنها تشير بجلاء إلى ما يعرف بالسليقة اللغوية وما أحوجنا إليها في هذا العصر المعلوماتي المعولم والكاسح. وهناك عامل ديني تشجيعي لتعلم العربية وتعليمها كما قال الخليفة عمر بن الخطاب “تعلموا العربية فإنها من الدين”. من لا يسيطر على هذه العربية يكون بمثابة فرع مقطوع من شجرة وارفة وجذورها ضاربة في عمق التاريخ، إنه محروم من التواصل المباشر بالتراث العربي منذ عصر الجاهلية ولغاية هذا اليوم. وقد يذكر البعض ما قاله طه حسين في هذا الصدد “إن المثقفين العرب الذين لم يتقنوا معرفة لغتهم، ليسوا ناقصي الثقافة فحسب، بل في رجولتهم نقص كبير ومهين أيضا”.
يبدو لنا أن تجربة الدنان تستحق كل اهتمام ونقاش وتطوير مستمر لأن الفكرة في جوهرها صائبة وقد تساهم إذا ما توفّرت الإمكانيات وتظافرت الجهود لتوسيع هذه التجربة وتعميقها وتحسينها. واقع اللغة العربية اليوم لا يُحسد عليه، ضعف الأداء بها تحدثا وقراءة وكتابة لا يحتاج لدليل وهذا يؤدي إلى العزوف عنها والتوجه لتعلم لغات أجنبية كالإنجليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية. حول هذه التجربة ينظر مثلا في: أثر برنامج التغطيس (التواصل الدائم) باللغة العربية الفصحى المطبّق في روضة أطفال العرب على علاماتهم في القراءة والتعبير في المدرسة الابتدائية تأليف جيل جينكنز، ترجمة وتحقيق عبد الله الدنان ويونس حجير، 2006
وقيل عن لغة العرب اليوم:
فجاءت كثوب ضمّ سبعين رقعة مشكلة الألوان مختلفات
وحال اللغة العربية في الديار المقدسة، لدى عرب الداخل، عرب الـ ٤٨ الخ. يُرثى لها كما يتجلى في نتائج امتحانات البجروت، الثانوية العامة، نسبة فشل عالية مقارنة بمواضيع أخرى وعدد ضئيل من الوحدات الدراسية فيها. هناك موجة عارمة وخطيرة من العبرنة والتعبرن على حد سواء. العربية في إسرائيل لغة رسمية ثانية بعد العبرية وهذه “الرسمية” على الورق في معظم الأحوال إذ لا اهتمام بها لا حكوميا ولا شعبيا بل هناك قدر كبير من الاستعلاء نحوها من جانب الأكثرية اليهودية.
اتقان العربية الفصحى محادثة وقراءة وكتابة واجب وحق بالنسبة لكل إنسان عربي من أجل التعلم والتقدم الحضاري والإبداع الفكري الذاتي والتماسك الثقافي لدى كافة الشعوب العربية. كُتب كم هائل من البحوث والدراسات والتقارير والمؤتمرات والندوات حول موضوع مناهج تدريس اللغة العربية وتحديثها في العالم العربي وأسباب ضعف التحصيل العلمي فيها بالرغم من أن عدد الحصص المخصصة لتدريسها يفوق مرتين ما في بلاد أجنبية، مثلا بمصر في مرحلة معينة هناك 1290 حصة وفي بريطانيا 576 حصة. تمحورت البحوث وتوصيات المؤتمرات على مناهج التدريس وإعداد المدرسين وتأليف الكتب وزيادة الحصص أيضا! (يُنظر مثلا في مؤلفات:، إبراهيم أنيس، أحمد عبد الستار الجواري، أحمد عبده عوض، أحمد فؤاد محمود عليان، إسحق موسى الحسيني، أنيس فريحة، أوجيني مدانات، توفيق السعدي، جميل خرطبيل، جودت الركابي، حسن عبد الباري عصر، حسن شحاتة، حسن ملا عثمان، حسين سليمان قوره، حمادة إبراهيم، داؤود عبده، رشدي أحمد طعيمة، رضوان الدبسي، زكريا إسماعيل، سعد محمد مبارك الرشيدي وسمير يونس اح، سليم سلامة الروسان، سميح أبو مغلي وعبد الحافظ سلامة، سلوى مبيضين، صالح نصيرات، طه حسين الدليمي وكامل محمود نجم الدين الدليمي، عايد توفيق الهاشمي، عبد التواب حامد، عبد الحميد عبد الله عبد الحميد، عبد العزيز عبد المجيد، عبد العليم إبراهيم، عبد الفتاح حسن البجة، عبد المنعم عبد العال، عبده الراجحي، عطية محمد عطية وآخرون، علي أحمد مدكور، علي تعوينات، علي الجمبلاطي وأبو الفتوح التوانسي، علي جواد الطاهر، علي حمد مدكور، عماد توفيق وآخرون، فاطمة حسن العبد الفتاح، فتحي على يونس وآخرون، فخر الدين عامر، فؤاد طرزي، فيصل حسين صحيمر العلي، ماجدة عبد التواب حامد، محمد أحمد برانق، محمد عبد الكريم الأسعد، محمد بوجه، محمد رجب فضل الله، محمد عبد الغني المصري، محمد عبد القادر أحمد، محمد صلاح الدين مجاور، محمد عطية الأبراشي، محمد علي الخولي، محمد عيد، محمد قدري لطفي، محمد محمود رضوان، محمود أحمد السيد، محمود رشدي خاطر، محمود شاكر سعيد، م. حبيب وق. شعبان، مريم جبر فريحات ومصطفى عوض بني دياب، مهدي المخزومي، نايف محمد معروف، وديع ديب، وليد أحمد جابر، يوسف الصميلي).
ويلاحظ أن الدكتور الدنان أتى بشيء جديد حقا وهو إعطاء جرعة الدواء الناجع بأحسن الأساليب في الوقت الأنسب، في المرحلة الإبداعية الأولى من عمر الطفل وجعل العربية الفصيحة دون أي تنطع أو تشدق لغة حية تنساب على الشفاه وليس فقط مبثوتة في بطون الكتب الصفراء أو السوداء أو الملونة اليوم. ليس من السهل أبدا اكتساب لغة لا تسمعها ولا تتحدث بها، وتعلم أية لغة بشرية طبيعية معناه في المقام الأول الوصول إلى قدر مقبول من السيطرة عليها في المهارات اللغوية المعروفة: استماع، تحدث، قراءة، كتابة، تفكير. وتطوير اللغة العربية لمواكبة المستجدات العلمية الحديثة غاية أو بالأحرى حلم من المستحيل تحقيقه بدون إرساء أسس السليقة للعربية الأدبية في عقول الأطفال وأفئدتهم وهكذا يمكن خلق ثورة جذرية في مفهوم التعامل الحضاري مع الآخر. نحن بحاجة للغة مرنة متطورة باستمرار، نقدرها ونحافظ عليها، نتعلم فيها ونعلم بها جميع المساقات منذ روضة الأطفال وحتى الدراسات العليا كما هي الحال في الجمهورية العربية السورية. هذا التفاعل الجماعي المتدفق في عملية الدراسة والتدريس والتلاقح مع الحضارة الإنسانية الراهنة سيولد لا محالة وثبة جبارة في الاتجاه الصحيح. إسرائيل بدأت باستعمال العبرية الحديثة كأداة تعليم لكل المواضيع وفي كل المراحل التعليمية بالرغم من أنها كانت لغة ميتة مدة طويلة كما أسلفنا وثروتها القاموسية كانت ضئيلة جدا. العربية التي اتسع معجمها لكافة العلوم والمعارف في العصر العباسي وفي العصر الذهبي الأندلسي قادرة للعب دور مماثل مستقبلا إذا أحرز ناطقوها التقدم العلمي المنشود وساهموا في تخصيب الحضارة الإنسانية الراهنة. كانت فترة احتاج فيها العرب مثلا لأكثرَ من خمسة ألاف لفظة تّمت بصلة ما للجَمل والآن نحن بحاجة لكلمات ومصطلحات لا عد لها ولا حصر في العلوم المعاصرة، حاسوب وطب وتكنولوجيا وعلم نفس وفلسفة الخ. مضى قرابة نصف قرن على اختراع الكومبيوتر وما زلنا نتخبط بين استعمال هذه اللفظة الأجنبية والكلمات العربية: حاسوب، حاسب، حاسبة، رتابة وقس عليه بالنسبة للنقال وإخوته الكثر ووو. إن غلبة اللغة بغلبة أهلها ومنزلتها بين اللغات تعكس مكانة أهاليها بين الأمم، وكما هو معروف، المغلوب مولعٌ بالاقتداء بالقوي الغالب.
معرفة قواعد اللغة صرفا ونحوا ودلالة لا تؤدي بالضرورة إلى تحقيق المهارات المذكورة وهذا كما أشار إليه ابن خلدون عند ذكره أن معرفة أصول السباحة والخياطة نظريا لا تجعل بالضرورة من حاملها لا سبّاحا ماهرا ولا خيّاطا بارعا. وفي عصرنا الحاضر هناك مثل واضح لهذه الظاهرة، معظم المستشرقين وأساتذة العربية والإسلاميات في الدراسات العليا، يعرفون كل شاردة وواردة تقريبا في قواعد العربية المكتوبة ولكنهم عاجزون عن التكلم والكتابة بها وصدق من قال: ليس كلُّ ما يأتي من الغرب يسرّ القلب.
تجربة الدنان في إكساب الطفل العربي العربية الفصيحة ابتداء من سن الروضة أثبتت حتى الآن إمكانية جعل الفصحى سليقة أو سجية أو ملكة أو طبع لدى الانسان العربي وذلك بالممارسة والدربة والمران. ليكن النحو في الكلام كالملح في الطعام. ليكن استعمال العربية الأدبية العصرية شاملا لدى الجميع في ساعات الدوام المدرسي، لدى جميع أعضاء الهيئة التدريسية وفي كل المواضيع التعليمية. أما خارج هذا الإطار التعليمي، في الشارع وفي البيت يعود التلميذ للهجته وبمرور الزمن سيصبح العربي مسيطرا على هذين النمطين الرئيسين للغة الضاد ولا ريب في أن الهوة بينهما ستردم باطراد متسارع. وليس من المستبعد بعد حقبة زمنية معينة من انتهاج التغطيس اللغوي الفصيح والإفادة القصوى من التكنولوجيا العالمية في إكساب اللغة، أن نرى أعدادا متزايدة من العرب ذوي سليقة فصيحة مثل ذلك الأعرابي الذي أجاب اللغوي ابن جني حول جمع بعض الأسماء: “فقال له الأعرابي ”عثمانون” فقال له ابن جنّي هلا قلتَ “عثامين” (مثل دكاكين، وسراحين وقراطين) فأجاب الأعرابي: أيش عثامين! أرأيتَ إنسانا يتكلم بما ليس من لغته، والله لا أقولها أبدا” (الخصائص 1/242
وعندها يكون بمقدور العربي السليقي أن “يخاطب كلا بما يُحسن” كما قال الأخفش الأوسط! وسيظل البقاء للأصلح والأقوى وكل عضو لا يؤدّي وظيفتَه سيندرس.
مراجع مختارة:
Jill Jenkins, The Effect of a Preschool MSA Immersion Program on Arab Children’s Primary School. Reading and Composition Scores. A Thesis submitted to the faculty of Brigham Young University in partial fulfillment of the requirements for the degree of Master of Arts, Department of
2001 Linguistics Brigham Young University ترجمة وتحقيق عبد الله الدنان ويونس حجير، 2006
عبد الله الدنان، برنامج تعليم المحادثة باللغة العربية الفصحى. القاهرة 2006.
عبد الله الدنان، التيسير في قواعد اللغة العربية. دار البشائر، دمشق ، ط. ١، ٢٠٠٨ (١٠٠٠ نسخة!!).