من الصعب وضع نقطة نهاية في حياتنا دون امتلاك القدرة على البداية من أول السطر. والطلاق كنهاية للزواج، تلك المؤسسة الدينية الاجتماعية التي تضيق بمقاسها الاجتماعي الجامد وعراها الكثيرة يوماً بعد يوم عن تطور الشخصية الفردية وزيادة وعي المرأة بحقوقها وتفاصيل وأسس وجودها الإنساني والأنثوي، ونمو وعي الرجل لإنسانيته وللفصل بين متطلبات محيطه الاجتماعي وبين و متطلبات وجوده كفرد مستقل في الحياة.
سأتحدث من زاوية نفسية المرأة تحديداً. فالمسألة أكثر تشابكاً بكثير من أن تطرح في مقال.
قد يبدو الكلام تنظيراً للحرية في مجتمع يقمع ويكبت أفراده على كل أصعدة الحياة اجتماعية ودينية وسياسية واقتصادية.
مجتمع نساؤه ملجومون بقانون جرائم الشرف ووصاية الأب والأخ والنظرة الاجتماعية والتبعية الاقتصادية، مجتمع أفراده محاصرون بالبطالة والفقر وقانون الطوارئ.
والموضوع أعقد بالنسبة للمرأة التي تتحمل كل الضغوطات السابقة مرتين مرة من المجتمع ومرة من الرجل الوصي مباشرة عليها، وبحكم كونها كائن حسي فطرياً، والحب جوهر وجودها.
ربما أبدو كمن يعزف في محطة الميترو على أسماع اللاهثين لتأمين قوتهم، على صخب خطواتهم المسرعة غير العابئة بألحانه.
لكن! أعتقد من المهم أن نعي القوى الخفية التي تتحكم فينا. ووعينا هذا أساسي لتحقيق جزء من إنسانيتنا.
يعتبر الزواج للمرأة انفصالاً عن روابط ذكرية ممثلة بالأب والأخ، واستبدالها بأخرى هي الزوج ثم فيما بعد الابن.
كل هذه الروابط الأولية التي هي قيود مختلفة على الوجود الحقيقي للمرأة في نفس الوقت تعطيها شعوراً بالأمان والانتماء لموجود قوي خارجها.
وهذه نفس الجدلية التي يعيشها الرجل مع مجتمعه والمؤمن مع إلهه.
وهي تسعى لتأكيد هذه الروابط لا من خلال تطابقها مع أنوثتها وحقيقتها بل من خلال تقديم نفسها كما يتوقع منها الآخرون لتحظى بشعور الأمان لأنه (إذا لم تكن هناك فائدة من الصفات التي يقدمها الشخص،فإنه لا يملكها فهي تصبح مثل السلع التي لا تباع برغم أن لها قيمة نافعة) وتكون (الثقة بالنفس منبعها ما يعتقده الآخرون في الشخص).
فنجدها قبل الزواج الفتاة المطيعة والمحبة للأخ والأب لدرجة العشق أحياناً، وفي لهاث محموم لأن تكون المرأة المثالية من وجهة النظر الاجتماعية المحلية، إما كقديسة وربة منزل ممتازة أو امرأة مثيرة ودلوعة وما إلى ذلك.
ثم عند الزواج، حتى إن كان هذا الزوج هو حبيب أو مجرد عريس، فهي تصل بواسطته لتمارس دورها الطبيعي في الحياة كأم وربّة وموجود اجتماعي ذي قيمة. فهي تعلن الانصياع للرابطة الزوجية مقابل الميزات التي تُمنح لها على أنها هِبات. بينما هي حقيقة من أبسط حقوقها.
وهنا تبدأ المشكلة، فهي تبدأ بالشعور بفرديتها ككائن مستقل وحر، وفي المقابل تبدأ بمقاومة السلطة الخارجية الجديدة الممثلة بالزوج ومجتمعه الأسري.
(بينما تحدث عملية الاصطباغ بالصبغة الفردية على نحو آلي فإن نمو النفس يتعرقل لأسباب عديدة فردية واجتماعية، وتنتهي هذه الهوة بين التيارين إلى شعور لا يطاق بالعجز والعزلة).
إن التطور النفسي للمرأة نحو فرديتها غير عكوس، لهذا تخشى المرأة الطلاق.
فبينما هي ترفض داخليا هذه القيود تستشعر ذعرًا تاماً من التخلي عنها نحو صحراوات العزلة الاجتماعية.
وهذا يفضي إلى (آليات الهروب) التالية التي تلجأ إلى إحداها أو أكثرها لحماية كينونتها من المهدِّد الخارجي - حسب المؤلف: 1-النزعة التسلطية: (الميل إلى التخلي عن استقلال النفس الفردية ودمج النفس في شخص آخر خارج النفس للحصول على القوة للنفس). وهذا الاندماج يتجلى في شكل (خضوع أو هيمنة)، فالخضوع يترافق مع مشاعر بالدونية واللاجدوى والتقليل من شان النفس وهنا تندمج طواعية بالسلطة الأعلى -زوج أو أسرة أو طفل أو إله- وتحرص على تأكيد دور هذه القوة الخارجة في كل مفاصل الحياة اليومية وهي بهذا تشعر بالرضا عن النفس كون ما يحدث لا يمكن أن يكون أفضل مما هو عليه. وتأتي التبريرات من منطق استعطافي مثلاً: ابني هو الشيء الوحيد المهم بالحياة،الرجّال إذا ما صرّخ ما بكون اسمو رجال... (يقوم الحب على المساواة والحرية، فإذا قام على التبعية وفقدان تكامل أحد الطرفين، فإنه يكون تبعية مازوكية). وفي حالة قرار الطلاق الاستثنائي لسبب أو آخر- يكون مجرد استبدال سلطة خارجية بأخرى وأيضا من باب الأمر الذي لا يُقهر- النصيب- والتبريرات تسلك أيضا مسلك الهروب الاندماجي: أهلي ما بيرضو لي الإهانة، الله ما بيتخلى عن المظلوم... وأما الهيمنة فتترافق مع مشاعر بالمنّ والعظمة وقد تأخذ شكل (الطيبة المفرطة والعناية الشديدة بالآخرين) الذين عليهم بالمقابل أن يردوا الدّيْن وهذه الحالة نراها من الأهل أمهات وآباء حين يقدمون لأطفالهم أقصى ما بوسعهم لا لرغبة حقيقية في العطاء وإنما بانتظار المقابل من خضوع تام وتجسيد لأحلامهم الخائبة وحتى تقديس من قبل الأبناء. وفي حال الطلاق قد ترهن المرأة عمرها لتربية ابنها للتحكم فيما بعد بمصيره وحياته كجزء متمم لها (هيمنة) أو الاحتماء به من المجتمع والقوانين الذكرية (خضوع).
2- التدميرية: تتجلى بالهجوم العنيف على منجزات الآخرين وعلى المفاهيم المجردة على حد سواء كالحب والعاطفة والرجل والمرأة وهذا غطاء خارجي لمشاعر العجز العميقة. (التدميرية هي نتاج الحياة غير المعاشة) فالمرأة التعيسة في زواجها، التي تعيش فيما يمكن أن أسميه -الطلاق النفسي - والخاضعة لقدرها، تسعد حين تسمع عن أخرى تطلقت - خاصة إن كانت المطلقة صاحبة حضور في الحياة- وتهاجم بعنف سلوكها وقرارها، بدل التعاطف أو ترك مساحة لخصوصية التجربة،أما المطلّقة حين تسمع الخبر قد تبدي تضامن، مع شعور مبطن بالرضا لما فيه من تأكيد عمومية تجربتها وإلغاء لاختلافها المزعج. 3- تطابق الإنسان الآلي: (إن الفرد يكف عن أن يصبح نفسه، إنه يعتنق تماماً نوع الشخصية المقدم له من جانب النماذج الحضارية) وهي الطريقة الأكثر انتشاراً في مجتمعنا لأنها تلغي ظاهريا التوتر الناشئ عن الرغبة في الحرية في مجتمع قوامه القمع كما ذكرت. وهنا تقنع المرأة نفسها بأنها سعيدة في حياتها وأنها غير مظلومة بل على العكس أنها فعالة وصاحبة دور قيادي في محيطها الاجتماعي والأسري بينما هي تدافع بشراسة عن قيم ذكرية ومفاهيم لا تمت إلى جوهر الأنوثة بشيء- كما في حالة المرأة التي تدافع بشراسة عن الزواج المبكر مثلا أو الطاعة التامة للرجل أو تدافع عن الفكرة القائلة إن المرأة ناقصة عقل ودين أو حالة الأم التي تزغرد حين يقتل ابنها الذكر ابنتها المتمردة - (لقد نجحنا في إقناع نفسنا بأننا نصنع القرار بينما نحن نتطابق مع توقعات الآخرين مساقين بالخوف من الاختلاف).
هذه هي حالة الطلاق في مجتمعنا. كل امرأة محكومة بسلسلة ارتباطات واعتبارات لا تنتهي، وهي مجبرة حتى في لحظة اتخاذ القرار إلى اللجوء إلى سلطة أخرى تدعم قرارها وتحمي وجودها. أخيرا...أين المرأة والرجل من هذا السؤال: هل الطلاق جرأة؟
أقول: نعم...في حال يكون خطوة نحو فردانية المرأة وحريتها الحقيقية. ولا...في حال تبديل سلطة بأخرى وترسيخ التهميش لدور الربة منجبة الذكور والإناث، (نصف المجتمع وأم النصف الآخر) على حد تعبير كوليت خوري.
*- الأقوال الواردة بين قوسين من كتاب (الخوف من الحرية) ل ايريك فروم.
سهير فوزات، (الطلاق فشل،أم جرأة في مواجهة الفشل؟!!)
خاص: مرصد نساء سورية