ندخل حانة مليئة ببشر يحاولون قهر بلادة الجو وبرودته اللاسعة بكاسات مليئة، تفرغ على مهل فتصير أحلامًا ودفئًا ونسيانًا. بعضهم يجلس صامتًا، حمرة خديّه مرسال حياة، وربما حياء من ذكرى، أو هو لون الليل في تلك البلاد الباردة. آخرون يقفون بدون نظام ولا انتظام، حلقات حلقات، صراخهم يتهافت بلكنة اسكتلندية تشبه الانجليزية التي نعرفها. بعد جهد وإجادة الإصغاء تستساغ كوسيلة ورفيقة تمضي معها أسبوعًا من الراحة في عاصمة عراقة عماراتها وبعض من تاريخ يقنعانك بخيار ابنة هذا الزمان/جناك، التي أصرت على طلب العلم حتى لو كان في جامعة أدنبرة. أربعة حاشرنا، هاربين من برد ثقيل قارس، ودخلنا الحانة التي منها تدفقت أنغام موسيقى حيَّة ورائحة ليل معطّر برائحة الفرح والندم وضجيج يمتصّك فيألفك وتألفه. دخلنا أغرابًا ولم نكن، فمع أول رشفة تعقد راية الخلان ويصبح النديم أخًا للنديم. ليالي الغربة تعلٌمك أن الكَرْم وطن والقلب حينما يشتعل يصير جواز سفر. عن غير وعي ومن دون قصد، ولكن ربما كرعايا دولة تجيد الاستيطان وقنص أملاك الغير، ثلاثة منا استغلوا فرصة خروج شاب ليدخن سيجارته في الهواء واحتلوا ما كان يشغله من حيّز في إحدى الزوايا. بعد لحظات عاد صاحب الحق، لوهلة ظهرت على وجهه علامات تساؤل واستهجان، لكنّه تمالك أعصابه ولسانه ودس "قفاه" النحيف بجانب صديقي. بحركة سلسة نجح في استعادة مساحة كافية ليكمل جلسته مع صديقيه. "أيوة" قال صديقي مازحًا بعربية محتجّا على ما سببته عودة الأجنبي المنافسة. هل قلت "أيْوَه" سأل المحلي صديقي الذي أجابه بنعم. فعلّق المحلي شاكرًا الرب بعربية لكناء والتفت صوب صديقي وسقط عليه معانقًا مقبلًا مبتهجًا، كأخ لاقى آخاه بعد طول غربة وهجيج. مد يده وسلّم عليّ وعلى زوجتي وزوجة صديقي. كان سلامه حارًا وصار احتفاليًا عندما عرف أننا فلسطينيون. كاد ورفاقه أن يقفزوا من مقاعدهم ببهجة فيها بعض من قداسة ولا أقول سذاجة. فهم ثلاثة إيرلنديين يناصروننا، نحن الفلسطينيين، مناصرة صادقة حقيقية. كانوا في فلسطين وشاركوا في المظاهرات الداعمة للحق الفلسطيني وسيعودون قريبًا وهذه المرة ليشاركوا أهل "بيت أمر" نضالهم ضد الاحتلال واعتداءات المستوطنين عليهم. حديث هذا الأجنبي جاء كالطلقات. حمرة خدّيه صارت بلون الحُب. لم يتوقف عن فيضه عندما انحنى قليلا واخذ حقيبته ليشهرها في وجوهنا ويرينا علم فلسطين وبجانبه قطعة من قلبه. مندفعًا كحبيب مراهق يحتفي بلعثمة اللقاء الأول مع حبه في ظل صدفة عارضة وحظ، مد يده وأخرج بطاقة عليها صورة لهناء الشلبي وتحتها كتب بلغة الفرنجة "كلنا هناء الشلبي" وأخرى عليها صورة لخضر عدنان وعليها أيضًا كتب "كلنا خضر عدنان". لم نصدّق، أسكرتني الغربة وأوجعتني قساوة هذا القدر. هل نحن في حلم أم في حضرة الوهم. لم يعطني "بيتر" فرصة السقوط في دم القصيدة التي يغتصبها الحداة في وطني، لهنيهة انتزعت أذني وتحت أجفاني رقد هابيل الذي من فلسطين كان ولما يزل، لهنيهة فقط وقبل أن يوجعني سؤال قابيل الذي هو من فلسطين كذلك، جاءني سؤال "الغريب" عن سبب رحلتنا لأدنبرة، سياحة سمّها يا غريب أو لجوء فراشة لحنين ناي، فالقلب في بلادي يدميه سكين دجال. في الحقيقة جئنا إلى هنا لنكون بجانب ابنتنا في فترة العيد. بحميمية فرد من أفراد العائلة يسألني "بيتر" عن اسم ابنتي ويقفز كمن ربح مكانًا على غيمة مع ملاك وكمن يشهق من رعد فقال: "لا يعقل أنّك والد "جنى" فنحن نعرفها جيّدًا ومعها وبعض الرفاق أصدرنا هذه البطاقات وقمنا بإلصاقها في كل مكان بأدنبرة". أكمل هذا الغريب قصته التي كانت أشبه بخرافة وأقرب لقدر. كلامه الذي جاء دفعة وبغتة كان كليل أدنبرة، مدينة شاخت عراقتها كامرأة عُتّق جمالها فزحفت الرغبات إليها، رياحها توجع كصدر عذراء، كما يليق بجزيرة مفتوحة على جهات الريح وعبث السماء. تحدثنا حتى الثمالة وافترقنا على ميعاد لقاء في فلسطين التي في خاطره. في الصباح غزونا شوارع أدنبرة، وجنى تنطنط باندفاع أمنية، تشرح وتنتشي لمشهد كل علم فلسطيني يتدلى من غرفة طالب أو شرفة وتشير بفرح عظيم إلى خضر الذي كان موزّعًا في ساحات أدنبرة وإلى هناء التي طيّرت ابتساماتها على كل من مر من هناك. إلى فلسطين التي تبكي غدر أبنائها عدنا. وفيها أقسمت أن لا أخبر "بيتر" وصحبه عن قابيل الذي من فلسطين ولم يتعلم بعد حرفة الغربان في حرمة الموت والفضيحة. وأقسمت كذلك أن اكذب عليه ولا أقول له كيف حاول بعضنا أن يلبد سماء هنائنا بغيوم من كذب وعجز ودجل واستكثر علينا فرحة اللوز في الصبح الأثير. وسأقول له إن خضرًا، ذاك الذي تمنيتم أن تكونوا مثله، جاءه كل إخوته، أحفاد سام ذاك الذي من آدم ومن قابيل ليفرحوا، كما يليق لفلسطين أن تفرح، يوم أفرج عنه أحفاد سام الآخرين، وكانوا في بيته في عرابة الذي من حجر ودمع ودخان كباقي بيوت فلسطين. لن أقول لهم، هكذا أقسمت، إننا شعب الأزلام والثريد والتعاويذ ونحترف الضغينة ونصلي للقبيلة ونهتف للعصا وللهزيمة، سأتركهم يحبون فلسطين التي في خاطرهم لأنهم يعرفون قابيل حين أجاب ربه: أحارس أنا لأخي؟! وأنا سأعيش في فلسطين التي على موعد مع الريح، فلسطين التي ستفيض حبًا وصدقًا وجنى.