يسعى هذا المقال إلى تقديم قراءة لإحدى قصائد أبي القاسم الشابي وهي " نشيد الجبار ، هكذا غنى بروميثيوس " ، والتي استهلها بالإطلالة على المستقبل الذي يأمل فيه بالعيش الكريم والبقاء الحر، متخطيًا حواجز مرضه ، ومقاومًا أعداءه ، ومتخذًا من النسر الذي يرفرف في أعالي القمم شبيهًا وموازنًا يصور توق نفسه للعلو والسمو والعزة يقول:
سَأعيشُ رَغْمَ الدَّاءِ والأَعداءِ كالنَّسْر فوقَ القِمَّةِ الشَّمَّاءِ "
لقد ذاق الشابي قسوة المرارة التي أملتها الظروف السياسية التي حلت ببلده تونس الحبيبة ، وتخلي الآخرين عنه ، ويبدو أن صراعه مع الآخرين كان أشد على نفسه من صراعه مع المرض، ولعل هذا ما دفعه لاستحضار الأعداء في مستهل قصيدته بصيغة الجمع ليدل على كثرتهم ، وأمله في انتصار نفسه الحالمة والشاعرة عليهم.
ولا يملك الشابي سوى كلماته البسيطة ، وسخريته الهازئة، وأمله بالانعتاق من غياهب ظلم أعاديه، وتوقه إلى الحرية التي رمز لها بـ " الشمس"، ودحره لقوى الشر التي رمز لها بـ " السحب ، والأمطار، والأنواء".
"أرنو إلى الشمس المضيئة، هازئًا بالسحب، والأمطار ، والأنواء"
ويدفعه توقه إلى الحرية إلى أن يغض طرفه عن رؤية الظلام الذي بثه الأعداء في وطنه وقد كان الشابي ذكيًا حين عدّ هذا الظلام مجرد ظل لا حقيقة له ، وأن مصير هذا الظلمة الهوة ، التي يردمها الشعب التونسي ويعلوها متخطيًا إياها.
"لا أرْمقُ الظِّلَّ الكئيبَ ولا أرَى مَا في قَرارِ الهُوَّةِ السَّوداءِ"
ويطغى على سطور قصيدته الطابع الرومانسي، الذي كلل القصيدة بأجواء الأحلام والمشاعر، والطبيعة ومكنوناتها، بما يحقق كينونة الشابي الخاصة وسعادته التي يحياها في هذه الأجواء النقية، والصافية من المنغصات، والبعيدة عن عالم الشر وأهله.
"وأَسيرُ في دُنيا المَشَاعرِ حالِماً غَرِداً وتلكَ سَعادةُ الشعَراءِ
أُصْغي لمُوسيقى الحَياةِ وَوَحْيِها وأذيبُ روحَ الكَوْنِ في إنْشَائي"
فالكون يحوي من الجمال ما يوحي للشابي بموسيقى الوجود وأنغامه الشاعرية الخالدة التي تفجرت ريثما ذابت روحه بأنفاس الطبيعة، وأصغت لوحي الحياة وإيقاعها الجميل الحي.
ولم يكن النفس الرومانسي وحيدًا في حضوره وتجلياته، إذ تنفس الشاعر صعداء الأجواء الصوفية ليبث الجمال الكامن في قرارة قلبه الذي حاول الأعداء إطفاء نوره وصدى رجعه، وما هذه المحاولة إلا خطوة أولى في طريق إحياء هذا القلب الذي أعيته الهموم وهدّه المرض.
"وأُصيخُ للصَّوتِ الإِلهيِّ الَّذي يُحْيي بقلبي مَيِّتَ الأَصْداءِ "
ويوجه الشابي صرخة لكل ما يثني آماله ويهددها، فيقيم مقابلات في ثنايا قصيدته تظهر رغبته في المجابهة ومقاومة هذه القوى، كقوله:
"فاهدمْ فؤادي ما استطعتَ" -"مقابل " -" فإنه سيكون مثلَ الصَّخرة الصَّمَّاءِ"
الذي يعبر فيه عن صموده وعدم اكتراثه بالأعداء ، فهو كالصخرة الصلبة التي لا يهزها شيء، ولا تهدمها القوى مهما تكالبت عليها.
وقوله:
"وانْشر عليه الرُّعب ، وانثر فوقه/ رُجُمَ الرَّدى وصواعقَ البأساءِ" -"مقابل " -"سَأَظلُّ أمشي رغمَ ذلك عازفاً / قيثارتي مترنِّماً بغنائي".
الذي وظف فيه أسطورة بروميثيوس اليونانية، رامزًا من خلالها إلى التضحية والمعاناة في سبيل الدفاع عن الإنسانية والحق.
فهو يشير إلى حاله المتردية جراء العداء الحاقد ومرضه العاتي، بما زرع الألم والوحدة في نفسه مثل بروميثيوس " وهو إله في الأساطير اليونانية القديمة، دافع عن الإنسان، فعاقبته الآلهة الأخرى عقاباً شديداً، لكنه كان صلبًا لم يتزحزح، وظلَّ متحديًا مع كل ما يواجهه.
وقد اختار الشابي هذه الشخصية اليونانية القديمة؛ لأنها ترمز إلى الصمود والتحدي والثورة مع الألم، حيث تجسد قصة بروميثيوس هذه العلاقة بين البشر وآلهتهم أفضل تمثيل، إذ اعتقد اليونانيون قديمًا بوجود عائلتين من الآلهة هما عائلة الآلهة الأوليمبية التي كان كبيرها هو زيوس، وعائلة تيتان التي حكمتها عائلة زيوس بعد حرب.
ولما انتصر زيوس كلف اثنين من التيتان هما بروميثيوس و أخوه ابيميثيوس بخلق البشر وتزويدهم هم وجميع حيوانات الأرض بمتطلبات الحياة التي تمكنهم من البقاء، وقام ابيميثيوس بناء على هذا بتزويد الحيوانات بالقوة والشجاعة والسرعة والتحمل وزودها بالريش والفرو والصوف وغيرها من وسائل الحماية، ولكن عندما وصل إلى خلق الإنسان تنبه إلى أنه وبسبب تهوره قد استنفد جميع موارده ولم يعد لديه ما يمكن أن يقدمه، فاضطر ابيميثيوس إلى طلب المساعدة من أخيه بروميثيوس الذي أخذ على عاتقه خلق الإنسان، والذي حصل أن بروميثيوس قد بالغ جدا في الإنعام على الإنسان وتكريمه، فأعطاه القدرة على المشي منتصبا على رجلين كالآلهة، وهو ما لم يحصل عليه حيوان آخر من قبل.
ثم قام بروميثيوس بسرقة النار"التي تعني النور والمعرفة والدفء " من الآلهة وأعطاها للبشر، مما زاد في سخط زيوس عليه أكثر، وجزاء لبروميثيوس وتجاوزاته، عاقبه زيوس بأن قيده بالسلاسل إلى صخرة كبيرة في القوقاز، وسلط عليه نسرًا جارحًا ينهش كبده كل يوم، ثم ينمو الكبد مجددًا في الليل , ويستأنف النسر نهشه مرة أخرى, وظل بروميثيوس يعاني هذا العذاب سنين طويلة حتى ظهر من سلالة البشر بطل عملاق هو
"هرقل" الذي صوب للنسر سهمًا فأرداه قتيلاً , وبذلك خلّص بروميثيوس من عذابه المقيم".
ويكرر الشاعر المعنى الذي استهل فيه قصيدته في قوله :
"أَمشي بروحٍ حالمٍ متَوَهِّجٍ في ظُلمةِ الآلامِ والأَدواءِ "
فهو يحاول تخطي همومه، وتجاوز محنة مرضه ، ولا يعينه على هذا التخطى سوى الروح الحالمة التي لاشيء يطفىء وهجها.
ويبقى الشابي يطوّف في الأجواء الرومانسية والصوفية، فهو يرى أن الظلام الذي يحيط به خارجي، ولا يمس قرارة قلبه المملوء بالنور الذي يضيء له طريقه في الحياة دون خشية من الظلم والظلام.
"النُّور في قلبي وبينَ جوانحي فَعَلامَ أخشى السَّيرَ في الظلماءِ"
ويقدم الشابي وصفًا لذاته، يتواءم مع شاعريته ورومانسيته العالية، فهو ناي أنغامه دائمة، ولاريب أن أنغامه هي أشعاره التي بث فيها مشاعره الإنسانية الرفيعة، وشارك فيها غيره الهموم والأحوال ، وقرأها السابقون كما قرأها اللاحقون:
"إنِّي أنا النَّايُ الَّذي لا تنتهي أنغامُهُ ما دام في الأَحياءِ"
وهو يشبه نفسه بالبحر المتسع، ويرى أن أعداءه مثل الرياح والعواصف التي لامست هذا البحر، فزادته قوة وعلوًا:
" وأنا الخِضَمُّ الرحْبُ ليس تزيدُهُ إلاَّ حياةً سَطْوةُ الأَنواءِ"
ويقلب الشابي الموازين فيصبح الموت الذي يخشاه الخلق، حبيبه المرتقب الذي ينشر السعادة الأبدية في روحه؛ ذلك أن رؤيته للحياة الإنسانية لم تكن على ما يرام، فالدنيا-في نظره- قرار للإثم والآثمين، ويعيش أفرادها على البغض والبغضاء، ولا مكان فيها للخير والجمال والحب الصافي.
"أمَّا إِذا خمدت حياتي وانقضى عُمُري وأخرسَتِ المنيَّةُ نائي
فأنا السَّعيد بأنَّني مُتحوِّلٌ عن عالمِ الآثامِ والبغضاءِ
لأذوبَ في فجر الجمال السرمديِّ وأرتوي من مَنْهَلِ الأَضواءِ"
وينهي قصيدته، برؤيته التي يتسامى فيها على كل خلاف أو عداء، مظهرًا عدم اكتراثه بالاتهامات التي وجهت إليه، والعداء الذي أحاطه من كل جانب، فهو يحمل من الإيمان الشاعري ما يعينه على البقاء والمواجهة، ويصور في رؤيته تلك نوعين من العداء، أولهما الشخصي، والآخر الجماعي على الوطن والمواطن فيقول:
"وأَقولُ للجَمْعِ الَّذين تجشَّموا هَدْمي وودُّوا لو يخرُّ بنائي
....................
إنَّ المعاوِلَ لا تَهُدُّ مناكبي والنَّارَ لا تأتي على أعضائي
فارموا إلى النَّار الحشائشَ والعبوا يا مَعْشَرَ الأَطفالِ تحتَ سَمائي "
ويبدو أن أعداءه كُثر" جَمع"، وأنهم تعمدو إذاءه" تجشموا"، وتمنوا موته وزواله؛ لما كان يحمله في روحه ونفسه من آراء وأفكار تنهض بالإنسان والوطن المنتهك .
وصورالشابي أعداءه على أنهم أطفال تمردوا في لعبهم على ذرى الأرض ولم يستطيعوا أن يطالوا بتمردهم سماءه العالية، وفضاءه الرومانسي الذي لا حد له.
وقلب الشابي لا يعرف الخوف ولا الانهزام؛ لذلك يطلب بكل جرأة ومباشرة أن يوجهوا إليه حجارتهم الهدّامة؛ وما هذا الطلب إلا لأنه اختار أن يعيش في روحه ونفسه في عالم الجمال والخيال، فهم في واقع الحال يرمون ظله" جسده المادي" بحديثهم الغث وآرائهم المميتة ولايستطيعون الاقتراب من حقيقته ووجوده وكينونته"الروحية"المتصلة أشد الاتصال بالجمال والشعر والوطن.
وقد صوّر نفسه طائرًا يرفرف بحرية مغردًا في الفضاء الرومانسي البعيد الذي لا تطاله إلا النفوس الرفيعة كنفسه:
"وإذا تمرَّدتِ العَواصفُ وانتشى بالهولِ قلْبُ القبَّةِ الزَّرقاءِ
ورأيتموني طائراً مترنِّماً فوقَ الزَّوابعِ في الفَضاءِ النَّائي
فارموا على ظلِّي الحجارةَ واختفوا خَوْفَ الرِّياحِ الْهوجِ والأَنواءِ".
وإن كان أعداؤه يحلو لهم أن تكون أغانيهم وترانيمهم هي الشتائم، ويروق لهم المجاهرة بالعداء، فإن الشابي لا يعرف إلا القول المتسامي الذي يشع فيه مشاعره وعواطفه بقوة وحرارة كقوة الشمس، ويسيح فيه بالفضاء المتسع العالي الذي يجمله الشفق بحمرته التي تفيض بالحب والتضحيات.
" وترنَّموا ما شئتمُ بِشَتَائمي وتجاهَروا ما شئتمُ بعِدائي
أمَّا أنا فأُجيبكمْ مِنْ فوقكمْ والشَّمسُ والشَّفقُ الجميل إزائي
مَنْ جَاشَ بالوحي المقدَّسِ قلبُه لم يحتفل بحِجَارةِ الفلتاءِ "
والفلتاء هم المجانين في اللغة التونسية، وقد أراد الشابي أن يظهر في ختام قصيدته صموده وعدم اكتراثه بالأعداء؛ لأنهم لا يعرفون إلا لغة الإيذاء وهم يقومون بأفعالهم دونما وعي أو فهم لحقيقة الوجود والحياة.