احتفت الناصرة، يوم التاسع والعشرين من أيّار الفائت، بافتتاح "مؤتمر المال والأعمال الثالث"، الذي بادرت إليه وأقامته مجلة "مالكم" العربية الاقتصادية. مواقع الأخبار زفّت لنا، على لسان القيمين على هذا المؤتمر، أن "دعوة وحضور مشاركين إسرائيليين (والمقصود، طبعًا، مشاركين يهود) إلى جانب مشاركين فلسطينيين (المقصود، طبعًا، فلسطينيين حضروا رغم الحواجز والصعاب من فلسطين المحتلة عام ١٩٦٧!) ومن الدول الأجنبية (المقصود، طبعًا، من الدول الامبريالية الغربية ودول حلف الشر)، تخدم أهداف المؤتمر، دون أن يحمل أي معايير سياسية سوى أنّه يهدف لدعم الاقتصاد العربي في البلاد".
هكذا جاءت البشائر وكانت التطمينات التي رافقتها صورٌ "تاريخية" بامتياز، تظهر فيها السيدة إستر ليفانون، مدير عام بورصة (سوق المال) إسرائيل، وهي محاطة بلفيف من المحظوظات والمحظوظين العرب يضغطون بحميمية وألفة وفرح على مشعل الأمل ويعلنون عن بدء عمل البورصة الإسرائيلية في ذلك الصباح.
مشهد لا أعرف له مثيل في تاريخ سوق المال الإسرائيلي ولا في تاريخ الحركة الوطنية العربية الفلسطينية/الإسرائيلية في البلاد. وتمنّيت أن أسأل من حظِي بتلك النعمة كيف كان الشعور وإلى أين تمادت الأمنيات؟!.
وتحتفي الناصرة في هذه الأيام باحتفالات تقيمها بلديتها ومجموعة من الجمعيات المدنية بهدف تشجيع السياحة والاقتصاد النصراويين. "ليالي الناصرة" أسموها، ولإحداها دعيت "ميرا عوض"، فنّانة شابة تتلمس مستقبلها بمشقّة وقلق، كما في عالم الفن والإبداع الشائكين أصلًا، وفي إسرائيل خاصةً، دولةٍ تبدع في عنصريتها واضطهادها لكل قيمة جميلة ونفس بشريّة لم يمنّ الرب عليها فخلقها غريبة عن أبناء شعبه المختار.
هاجت فيالق المناضلين وماجت، أبرقت سهامهم واستنفرت حناجرهم تنادي القيمين على تلك الليالي بإبطال دعوة هذه الفنانة لأنّها شاركت في مسابقة الغناء الأوروبية "الأوريفزيون" فعملت على "تجميل صورة إسرائيل". لقد حذّر البيان ونبّه فميرا عوض هذه غنّت في زمن الحرب الإسرائيلية على غزة وهي لذلك لا تصلح أن تكون ضيفة إحدى ليالي الناصرة.
علت الأصوات المندِّدة واختلط حابل الشبيبة الشيوعية بنابل أصوات تجمّعية، والتأمت جراح الإخوة الأعداء وتعاضدت أكفهم، فالخطر داهم والعدو ميرا وعلينا وعلى الخلافات عوض.
صورتان أنقلهما بتهكم حزين موجع ودامٍ. فأنا، لهذا المشهد، حزين مثل كثيرين منكم، فالشاشة هجرها أبطالها وكأنّها تحفل بالكومبارس والبديلين. غاب العقل عن هذه التناقضات المقلقة واختفت الأصالة والجرأة. ما يجري في سوق العرب هذه يعكس غياب وضعف القيادات التي تستدعي مسؤوليتها أن تجاهر بموقفها وأن تقول كلمة حق وتصويب.
صمتكم يا رفاق ويا سادة "كصمت حصاة في دم". فما معنى أن لا نسمع كلمة من مسؤولين في الجبهة والحزب الشيوعي الإسرائيلي عن موقف سكرتير الشبيبة الشيوعية في مسألة تحمل في طيّاتها معاني أبعد من حنجرة "ميرا عوض"؟ وما معنى أن لا نسمع قادة حزب التجمع، حزب "الضاد"، وآخرين يعبّرون عن موقفهم إزاء انعقاد مؤتمر على منصّاته جال وأفتى عتاة المؤسسة الصهيونية المالية والعسكرية وغيرهم؟
صمتكم يا سادة "كصمت حصاة في دم" فإلى متى ونحن كل يوم نخسر بيدرًا ونفتح لليأس مقهى؟ والى متى هذه "الهريبة" من واقعنا ومواقعنا؟ فهل حقًا على الناصرة أن تستجيب لنداء الخسارة لأن هذه الفتاة، ميرا، مثّلت "دولة العدوان والحرب"؟ (علمًا بأن ميرا دحضت كونها تمثل إسرائيل الاحتلال والقمع والاضطهاد، وجاهرت بدعمها للسلام العادل وحقوق شعبها؟، فالمقياس يبقى، عندي، موقف هذا أو تلك وتبنيه/ا لسياسة إسرائيل العدوانية وتنكرها لحقوقنا كأقلية قومية ولحقوق شعبنا، وعن هذا للحديث تتمة(. أمثل هذا السبب كافٍ لإعلان القطيعة والحرمان؟ وماذا سيفعل رؤساء الحكمة من عربنا حين يغزون مؤتمرات العلم والصحة باسم هذه الدولة وعِلْمِها؟ ولماذا نقاتل حتى في القضاء والفضاء على إشراك رياضيينا ومتميِّزينا ليمثّلوا الدولة في المحافل والمنابر؟ وماذا سيفعل علماؤنا ومحاضرونا وقضاتنا ومحامونا وموسيقيونا عندما ينادي باسمهم التاج وتستحق صدورهم الأوسمة؟.
ولماذا يصبح من يشارك في مؤتمر في هرتزيليا أو إيلات أو جنيف أو بلاد الواق-واق متخاذلًا وملعونًا كمبروص ومنبوذًا كمصاب بذات الرئة ومن يأتمر تحت مظلة وبرعاية بنك "هبوعليم" (هو بنك العمال "الصهيوني") ومجموعة يسراكارت (هي صاحبة الجاه والمال والنفوذ الصهيونية الكبيرة) يهدف لدعم الاقتصاد العربي في البلاد (ولم أقرأ والحمدلله صموده أيضًا)!
وبعيدًا عن التهكم المر والأسى، على القادة أن تقود وأن تقول قولها كما قالت قولها "حذام" (فأنا مع دعوة "ميرا" ومع شراكة "إستر") وذلك لأن عيشنا صعب وواقعنا معقد وبسيط. واقع من دم تخثّر وجرح لم يندمل ومن حاضرٍ بركاني ومستقبل من غيب ومأزق وجودي. "فإستر ليفانون" هربت من جحيم إلى بلادٍ حسبتها بلاد الأمن والعفة والسلامة، لقد خدعوها بوعود من عسل كُسرت جراره بعصي رعاة الأرض وأصحابها وزبدة ساخت مع أول طلقة من مسدس اسمه "الحقيقة". هربت إلى حيث الحلم، فما كان ليلها إلّا كليلِ ضحاياها، خوفًا وأنينًا. هربت من بلاد الجريمة فتحوّلت إلى مجرمة بامتياز. حاربت وادعت النصر ولم تفز لا بسلام ولا بوطن ولا بخلاص. واقعها معقد وبسيط، واقع من مستحيلات وعبث ووجع الضحية ونخزها. واقعنا معقّد وبسيط، واقع من مستحيلات وعجز.
لا تحمِّلوا "ميرا" أوزاركم وعقمكم، ولا تؤثروا حضن "إستر" ولا تقاطعوها وغنّوا مع "ميرا" ولا تظلموها، فهي تريد فقط أن تغنّي، هذا خيارها وربمٌا حلُّها، فما خياركم وما حلكم؟