قد تبدو للعديدين،لا سيّما لمن يعاني من ذاكرة ضعيفة، تداعيات الأحداث الدامية في الضفة الغربية والقدس المحتلّتين، سوابق لم تشهدها المنطقة في العقود الثلاثة الماضية، لا بما يقوم به الفلسطينيون في دفاعهم عن أنفسهم ولا ما ينفذه الاحتلال وأدواته من قتل وقمع بحقهم. ولإنعاش ذاكرة من نسي أذكّر أن ما نشاهده اليوم في مناطق التماسّ المختلفة هو ليس أكثر من تكرار لموجات اجتاحت نفس المناطق تقريبًا بوتائر أشد أحيانًا وأقل في أحيان أخرى؛ فلقد انتشرت ظاهرة استعمال السكاكين والخناجر والبلطات، وهي ما يميّز معظم العمليّات الفلسطينية الجارية حتى الآن، في مطلع التسعينيات، وبعضها نفذه قاصرون أو قاصرات فلسطينيون، أنزلت محاكم إسرائيل بحق من بقي منهم على قيد الحياة أحكامًا قاسية وتعسفية مطلقة.
مرّةً أخرى أؤكد أن التكهن بما ستفضي إليه هذه الموجة من السخط الفلسطيني غير ممكن، خاصة وأنني أعارض رأي كثيرين هاجموا السلطة الفلسطينية ونفوا أن يكون لها دور فيما يحدث، وبعضهم اتهم جميع عناصرها بأكثر من ذلك، فأنا ممن يرون أن للسلطة الفلسطينية سهمًا في تفجير الأحداث، إلى جانب عوامل أخرى، وسيكون لموقف قادتها المسؤولين ومؤسساتها الوطنية قول هام وتأثير على وجهة هذه السيول وأي الشعاب والمجاري ستمسي مآويها، وهي تفعل ذلك حين أصبح، حتى لمن كان إيمانه أضعف من إيمان " توما"، جرحُ ما تبقى من فلسطين سافرًا، وبات الرهان على مفاوضات مع النظام الإسرائيلي كرهان الضفدع على صداقة عقرب، والتأمل بضغط "العالم" على قادة إسرائيل أضعف من أملي بالفوز في سباق الماراثون الأولمبي، وحين اقتنعت تلك القيادات أن طلب السلطة الفلسطينية مناصرة العالم العربي والإسلامي وانتظارهم للفرج من تلك الصحاري النازفة، ليس أكثر ممّن يطلبون ذلك "الأبلق العقوق".
أخشى من النهايات غير المحسوبة، فالأمور بخواتيمها، ولا يكفي الرضا عن بداية نبشت قبر الاحتلال بعد أن كاد يصير نصبًا يستذكر في المناسبات وفي ظلّه تعيش العامة وتستكين، فلضمان نتائج ترصد في صالح النضال الفلسطيني من أجل الحرية والدولة المستقلة، لا بدّ من قيادات وطنية مسؤولة ترسم وتسيّر الأحداث وتحسم اليوم في خطوة وتلحقها بأخرى من أجل تحقيق هدف واضح ونبيل.
لقد بدأت هذه الاندلاعة وإسرائيل الرسمية تعاني تحت طائل ما تقترفه سوائب المستوطنين من فظائع، وصلت قمة من القذارة في حرق عائلة دوابشه، وحينها كتبت أنني أخشى رد فعل فلسطيني متفجر غضبًا ويأسًا، فتتلقفه إسرائيل بخبث ودربة، بما سيكفل لها طي آثار تلك الجريمة ومثيلاتها، وعلى أجنحة من عهر وشمع ستحاول أن تأخذ العالم مجددًا إلى فضاءات الالتباس الحارقة حيث يموّه الدم المسفوك مَن تك الضحية ومن هو المجرم، فنحن اليوم نرى تلك المحاولات الإسرائيلية التي تعيد فيها أبواق الدعاية محابر الدم إلى الشوارع وتكتب زمر من إعلاميين مجنّدين بمدادها تاريخًا أسود جديدًا وقصصًا تتبدل فيها أدوار الثعالب بالقطط، والذئاب تصير ليلى والشعب عجائز وعجّز.
لقد وحّدت الأحداث الأخيرة فئات الشعب الإسرائيلي وصار كل أخ يهودي أخًا للآخر والمصير واحدًا، وأعادتنا شفرات الخناجر مجددًا إلى عالم الهوس والخوف والتكافل اليهودي الشوفيني السّام والأعمى، وبهذا خسرنا، نحن الفلسطينيين، مجددًا فرصة، وقد كانت بالأصل ضعيفة وبائسة، لإضافة حلفاء لنضالنا ضد الاحتلال الذي كان وما زال أصل البلاء والدم والفساد والعتمة.
لن يكفي أن نعيد ما يجري إلى عنصرية اليهود وتطرفهم الطاغي، وأكثريتهم أثبتت طيلة العقود الماضية تطرّفها وعنصريّتها، فهذا التوصيف يريحنا من الاستثمار والعمل بعيدًا عن تلك الجبهات والاكتفاء بالعمل بيننا وبين جماهيرنا. والاتكال على حقنا الأبيض وأملنا بنصر سيأتينا من حيث لا ندري ومن طاقات السماوات.
وهذا ينقلني إلى ما يجري بيننا، نحن الجماهير العربية في إسرائيل، فكم قلنا أن للنضال في الأراضي المحتلة خصوصية وقوانين، وما يحق لشعب يرزح تحت احتلال مباشر لا يحق لمواطنين يعيشون في كنف دولة مارقة وقوانين تنز عنصرية ونظام حكم فاشي وشعب يريق لعابه كلما رأى عربية وعربيًا.
ففي هذه الأيام العصيبة أرى أن دورنا يجب أن يكون رياديًا وحاسمًا، وعلى القيادات الواعية والمسؤولة أن توضح تلك الفوارق بشكل لا يقبل التأويل ولا يحتمل التأتأة، فنضالنا في داخل اسرائيل من أجل إنهاء الاحتلال الاسرائيلي واجب، ولكن أدوات ذلك النضال يجب أن تتميز عن تلك المتاحة والمختارة في نابلس ورام الله والقدس، وساحات نضالنا مغايرة، فسخنين ساحتنا، ولكن يجب أن لا نكتفي بها، ويجب أن تبنى إستراتيجية لغزو ساحات المدن والمواقع اليهودية، على أن يسبق تلك النشاطات عمل سياسي دؤوب وغير منقطع في الساحات اليهودية عنواناه الاحتلال وموبقاته ومواطنتنا ومستحقاتها.
لقد قرأت بيان لجنة المتابعة العليا الذي تُلي في مظاهرة سخنين، وهو يستحق مراجعة خاصة، ولكنني استبقها وأقول إنه بيان توفيقي غير كاف في هذه الظروف الحرجة، فهو لم يتطرق ولو بكلمة لأدوات نضالنا المشروعة، بخلاف غير المشروعة، علاوة على إغفاله عمدًا وجوب العمل بين الأوساط اليهودية، على الرغم، أو ربما، بسبب شدة عداوتها لنا.
ستبدي لنا الأيام القريبة أين أخطأنا، وأين كان خطؤنا قاسيًا، فالنضال الفلسطيني في الأراضي المحتلة نضال للتحرر الوطني وإقامة دولة مستقلة وطنية ديمقراطية حرّة، وإذا استراح البعض أن يرفع ذلك النضال على كتف المسجد الأقصى، والبعض يقحم مبتذلًا ومخاويًا كنيسة القيامة، سيتبدى لهم أن الأقصى سيصير حرًا إذا كانت القدس حرة، وهذه لن تصير حرة إلا إذا انتهى الاحتلال وانقضى.
ويبقى علينا نحن أهل هذه البلاد، الدور الأهم، فلنرفض أن نكون ذنبًا لأي جهة أو لفصيل أو لمنظمة أو لدولة، ولنستمر كما كنا، رأس الحكمة المغروس في أرض الوطن، والبوصلة لكل قطيع ضل الطريق وأضاع الوتر، والفاتح ميادين عجز عنها قصيرو النظر وحجبها المنتفعون والمزايدون، وأقصاها المتهكمون الذين يعرفون ثمن كل شيء ولا يعرفون قيمة أي شيء.