هذه الحلقة المفقودة ليست داروينية، أو حتى بالمعنى الذي أراده العالم ديزموند عندما تحدث عن غياب الوسيط بين الأعلى والأدنى، إنها من صميم ثقافتنا أولاً، هذه الثقافة التي أدى اغترابها وانفصالها عن جاذبية الواقع والتاريخ إلى انشطار عجيب، بين نخب متعالية سواء كانت أكاديمية أو في أي مجال موسوعي وبين عامة الناس. فما يصدر الآن من مجلات معرفية وكتب وموسوعات يبدو كما لو أن الناس لا شأن لهم به، بعد أن تحولت الفضائيات وبرامجها إلى بديل وهمي للحلقة المفقودة ثقافيًا، فثمة الآن خبراء ومحللون ومفكرون ضمن الهواء وفي نطاق الأثير، مقابل نخبة تعمل في صمت وعزلة، وما إن يرحل أحد هؤلاء كالجابري مثلاً حتى يبدأ الكلام عنه في صحف ومنابر وفضائيات لم تقرأه حيًّا ولم تقم وزنًا لأطروحاته لأنها كانت ولا تزال منهمكة بما هو دون ذلك بكثير. الحلقة الغائبة في ثقافتنا هي الوسيط بين النخبة المعرفية الجادة والقارئ العادي، وكان يمكن للصحافة الأدبية أن تكون هذا الوسيط أو هذه الحلقة، لكنها أيضًا أصيبت بالعدوى التي تمثلت بالسطحية والأداء السريع والمناسباتية، فهي لا تتذكر أهم المفكرين العرب في حياتهم وما إن يرحلوا حتى يتحولوا إلى مناسبة لملء الصفحات، وإبداء الآراء المطبوخة على عجل حول قضايا معرفية وإشكالية لا تقبل الاختزال والتسطيح. وحين قدم الراحل عابد الجابري نقدًا بارعًا للعقل العربي، ولسلاح هذا العقل وهو نقد النقد لم تصل أطروحاته إلى القراء العاديين لأن الصحافة والمنابر الأكثر انتشارًا ونفوذًا تركت الأمر لأولي الأمر، وهم زملاء الجابري الذين يساجلونه في كتب لا يصل توزيع أكثرها انتشارًا إلى ثلاثة آلاف نسخة في نطاق قومي يتجاوز تعداده الربع مليار. إن الموجة السائدة الآن وفي زمن الوجبات السريعة والعلاقات العابرة ومعرفة شيء واحد فقط عن كل شيء هي السبب في القطيعة بين ما ينتجه المفكرون العرب الجادون والناس، رغم أن ما يطرحه هؤلاء ليس بلغة بائدة أو حتى بلغة عصية على الفهم، لأنهم أساسًا يستقرئون تاريخًا مشتركًا، وينقدون واقعًا نعيش فيه جميعًا وإن كان وعينا به مُتفاوتًا. والعثور على هذه الحلقة المفقودة في ثقافتنا ليس صعبًا أو بحاجة إلى كولومبوس جديد، وهي ليست قارة غارقة في أعماق المحيط، إنها ببساطة ردم ما يمكن ردمه، من الفجوة الآخذة في التعمق والاتساع بين المفكر والقارئ أو بين المرسل والمرسل إليه، فهؤلاء لا يكتبون لأنفسهم أو لزملائهم فقط. وتقتضي الحقيقة منا الاعتراف بأن من يناط بهم ردم هذه الفجوة يتهربون من دورهم بسبب ما ترسخ من عادات الكسل الذهني والتذرع بالسهولة.