المواقف الأخيرة لزعيمة حزب العمل شيلي يحيموفيتش طرحت مسالة أخلاقية سياسية تظهر زعيمة حزب العمل كوجه آخر لبيبي نتنياهو في المواقف من الاحتلال الاسرائيلي والمستوطنات واقتراحات اسرائيل للحلول “السلمية” مع الفلسطينيين. شيلي يحيموفيتش كررت شروط رئيس الحكومة نتنياهو التعجيزية مع سبق الترصد والإصرار من الفلسطينيين: مفاوضات مباشرة دون وقف البناء الاستيطاني والاعتراف بدولة اسرائيل كدولة يهودية.
بذلك وجهت يحيموفيتش صفعة مدوية لكل من علق آماله ان تطرح زعيمة العمل موقفا ملائما لنظرتها الاشتراكية الديمقراطية، التي تكررها ، بل واقرت شعارات الانتفاضة الاجتماعية في اسرائيل في الصيف الماضي كشعارات اساسية في حملتها الانتخابية.
كيف يمكن ان توفق زعيمة العمل بين مفاهيمها الاجتماعية ، حول العدالة والمساواة وحقوق المواطن، للمواطنين داخل اسرائيل وبنفس الوقت تتنكر للعدالة والمساوة وحقوق الانسان الفلسطيني في المناطق المحتلة وأن تطرح نقيضا لكل رؤيتها الاشتراكية الديمقراطية؟ حتى وزير الدفاع ايهود براك ، شريك نتنياهو، اعلن أخيرا انه لا بد من استئناف العملية السلمية مع الفلسطينيين، دون ان يطرح شروطا تعجيزية ناسفة، مثل استمرار الاستيطان والاعتراف باسرائيل دولة يهودية.
لا يمكن فهم مواقف اشتراكية ديمقراطية في المجال الاجتماعي داخل اسرائيل، ضمن التمسك بخيار امبريالي قمعي بما يخص الاحتلال الاسرائيلي باستمرار التنكر لحقوق الانسان في المناطق المحتلة.
اعرف ان الكثيرين من المواطنين العرب ( واليهود خاصة)علقوا آمالا عريضة على ان تشكل زعيمة حزب العمل البديل الاجتماعي والسياسي لسياسة الاحتلال والحد من اتساع الفجوة الاجتماعية بين الفقراء والأغنياء داخل اسرائيل، وتغيير في مضمون علاقة المؤسسة الحاكمة مع المواطنين العرب ، نحو المزيد من الحد من سياسة التمييز القومي العنصري التي تتبعها مؤسسات الدولة، من منطلق ان تشكل المضامين التي أقرها رئيس الحكومة الأسبق ، اسحق رابين، قائد حزب العمل في وقته، القاعدة السياسية والاجتماعية والحقوقية التي انطلق منها في الوصول الى اتفاق اوسلو ، وانتهاج سياسة احداث تغيير هام في علاقته من الوسط العربي برؤيته ان المواطنين العرب هم جسر هام لبناء الثقة مع الشعب الفلسطيني، على ان يتحول ذلك الى مضمون سياسي اساسي في برناج زعيمة حزب العمل يحيموفيتش، اولا بما يخص المشكلة الفلسطينية وثانيا اقرار خطوات هامة في اصلاح الغبن التاريخي مع الجماهير العربية في اسرائيل.
يحيموفيتش كصحفية ومذيعة راديو برزت بمواقفها اليسارية على كل الأصعدة، على الصعيد الاجتماعي، الاقتصادي وعلى الصعيد السياسي من الاحتلال وسياسات الحرب. ما تقوم به اليوم هو منافسة مذلة لسياسات بيبي نتنياهو في ملعبه البيتي، أي الدخول الى لعبة خاسرة مسبقا.
لا يمكن فهم مبادئ الاشتراكية الديمقراطية، التي تطرحها يحيموفيتش، والحديث عن توزيعة اجتماعية عادلة داخل المجتمع الاسرائيلي، ومواجهة النهج الراسمالي الجشع (الخنزيري كما يصفه المحللين الاقتصاديين اليهود) حين تطرح موقفا سياسيا يتنكر لحقوق الانسان ، وراء حدود 1967، بل تبرر سياسة الاستيطان والقمع الاحتلالي، وتصر على مواقف يمنية تضعها بمستوى واحد مع أكثر وجوه اليمين تطرفا في اسرائيل، امثال بيني نتنياهو نفسه ووزير خارجيته أفيغدور ليبرمان. اذن عن أي عدالة اجتماعية تتحدث “شيلي ليبرمان نتياهو”؟ ان الرأسمالية الجشعة التي يعاني منها المجتمع الاسرائيلي هي الوجه الآخر للكولنيالية الشرهة للإحتلال الاسرائيلي. أي موقف اجتماعي أخلاقي سيكون مضحكة وكذبا اذا لم يكن شموليا برؤية ان حقوق الانسان لا تتجزأ على اساس قومي، لا تتجزأ على اساس التمييز بين مواطن في دولته المستقلة ومواطن تحت احتلال نفس الدولة.
الاحتلال والفجوة الاجتماعية، الغبن الاجتماعي واتساع الفجوة بين الفقراء والأغنياء، نهب الأرض الفلسطينية، مشاكل اسرائيل السياسية والعيش برعب دائم من الحرب القادمة، مصدرها كلها سياسة واحدة، سياسة مغامرات عسكرية واصرار على التنكر لحقوق شعب تحت احتلال نفس الدولة، وفرض ارادة اسرائيل على المجتمع الدولي ان تكون المحتكرة الوحيدة للسلاح النووي في الشرق الأوسط. يحيموفيتش تكذب حين تطرح برنامجا معاديا للرأسمالية الخنزيرية داخل اسرائيل، وتدعم استمرار الاستيطان وتطرح شروطا تعجيزية امام الفلسطينيين معروف سلفا انها لن تقود الى طاولة المفاوضات.
لو كنت مواطنا يهوديا عاديا، لما اخترت ، امام طروحات يحيموفيتش الصبيانية، الا بيبي نتنياهو، لأنه الأصل والأشطر في تنفيذ سياسة التعرجات التي لا تقود الى تحقيق الحلم الانساني بمستقبل سلمي ورفاهية اقتصادية للمواطنين. يحيموفيتش تبرز كلاعبة ثانوية ليس في ملعب بيبي نتنياهو فقط، انما في الساحة السياسية الاسرائيلية عامة. وانا على ثقة ان مصوتي حزب العمل لم يختاروها لتكون لاعبة تعزيز لسياسة الليكود، او لاعبة ثانوية في السياسة الاسرائيلية.
كان واضحا التردد الطويل لزعيمة العمل من الخوض بالموضوع الفلسطيني، موضوع الاحتلال والاستيطان، طرح برنامج او رؤية يمكن ان تشكل طريقا خاصا لحزب العمل في مواجهة سياسة الاستيطان وإفشال المفاوضات مع الفلسطينيين والادعاء انه لا يوجد مفاوض فلسطيني يمكن استئناف العملية السلمية معه، حسب سياسة نتنياهو وشريكه ليبرمان وسائر شلة اليمين المتطرف. بل ادعت انه توجد برامج للحلول ، ما هو خيارها؟ هذا ظل مجهولا حتى كشفته قبل ايام. برنامجها هو برنامج نتنياهو!!
ماذا جددت يحيموفيتش في رؤيتها الاجتماعية الأكثر عدالة، عدا الثرثرة التي لا تغطية لها؟ هل طرحت بديلا حقيقيا عن سياسات الحرب والاحتلال والتنكر لحقوق الشعب الفلسطيني ؟ هل تظن ان رؤيتها الاشتراكية الديمقراطية في المجال الاجتماعي يمكن تنفيذها ضمن استمرار الاستيطان وسياسة الاحتلال وقمع الشعب الفلسطيني ونهب خيراته المادية؟ من أين ستخصص ميزانيات لحماية المستوطنين والبناء الاستيطاني واستمرار حصار الشعب الفلسطيني؟
الاحتلال هو المشكلة الأساسية التي تجعل المجتمع الاسرائيلي رهنا لسياسات الاحتلال والحرب. بدون تنظيف المجتمع الاسرائيلي وتحريره من الاحتلال، تماما كما يُحرر الشعب الفلسطيني من الاحتلال، ستظل الفجوة الاجتماعية آخذة بالاتساع، وستظل المستوطنات وسوائب المستوطنين هما اقتصاديا يلتهم حصة الأسد من الناتج القومي في اسرائيل، الذي يحرم منها منتجي الخيرات المادية أنفسهم، سيظل اصحاب المليارات ملوكا غير متوجين يزدادون غناء فاحشا وتتسع الفجوة بينهم وبين فقراء اسرائيل، سيظل المواطن الاسرائيلي رهينة لسياسات عدوانية ضد الفلسطينيين ، ضد العالم العربي ، ضد ايران (بحجة السلاح النووي الذي تريد اسرائيل ان يكون احتكارا لها)، ضد اوروبا وضد اي اقتراح فيه بعض العقلانية حتى من الصديقة الوحيدة الضامنة للعنجهية الاسرائيلية الولايات المتحدة الأمريكية وبغض النظر من سيجلس في البيت الأبيض.
ان قادة حزب العمل ، وعلى راسهم يحيموفيتش يتخلون عن مواقف رابين، الذي لم يتردد في اجراء تغيير سياسي عميق واتجه نحو ايجاد حلول مع الفلسطينيين، لا أقيم هنا اتفاق اوسلو ، انما اريد ان أشير ان يحيموفيتش، تتعاون بشكل عميق وغير مباشر مع قائد الليكود الذي وقف على رأس المحرضين ضد رابين في وقته، من اجل افشال الوصول الى حل سلمي مع الفلسطينيين. ان دعم يحيموفيتش لسياسة نتنياهو بان تعترف السلطة الفلسطينية بدولة اسرائيل كدولة يهودية، هو نسف لكل فكرة دولتان لشعبين. ان عدم وقف الاستيطان يعني امرا بسيطا، لا مفاوضات مع الفلسطينيين. بالتالي يحيموفيتش تبرز كلاعب تعزيز مع نتنياهو في ملعبه السياسي. عمليا لا قيمة لكل برنامجها الاجتماعي ، حول التقسيم العادل للدخل الوطني، سد الفجوة ومحاربة الغلاء .
سياسة تتنكر لحقوق الانسان في الطرف الآخر، سياسة تفترض توظيفات هائلة في الأمن للدفاع عن المستوطنين وتخصيص حصة هائلة من الميزانيات لهم، لا يحصل عليها اي مواطن داخل الخط الأخضر ومواصلة سياسة التنكر لأي حل عادل للقضية الفلسطينية، هي وراء الضائقة الاقتصادية للمجتمع في اسرائيل وشح الميزانيات المخصصة للتعليم والصحة والرفاه الاجتماعي وسائر الوزارات الاجتماعية، هي المشكلة التي تتهرب منها يحيموفيتش وستقود الى فشلها في مواجهة قبطان هذه السياسية بيبي نتياهو.
الآمال التي تعلقها فئات اجتماعية مسحوقة على يحيموفيتش سابقة لأوانها. بدون بديل سياسي لن يكون بديلا اجتماعيا!! هل مواقف يحيموفيتش هو اعلان الإفلاس السياسي لحزب العمل ؟ اليمين يتحد في اسرائيل للحرب ضد ايران قبل توزيع المقال للنشر الواسع، قام نتنياهو ووزير خارجيته، بما يشير الى عملية “انقلاب سياسي يميني” ، باعلان التوجه لإنتخابات الكنيست بقائمة واحدة . الهدف من هذه الخطوة، ليس اضعاف الوسط واليسار فقط، الضعيف أصلا بدون هذا الانقلاب اليميني، انما اعداد اسرائيل للحرب ضد ايران، بتحييد الأصوات المترددة والمحذرة من مغامرة عسكرية لا تعرف عواقبها، الى جانب تعميق الاستيطان الكولنيالي في المناطق الفلسطينية المحتلة وليس سرا ان نتنياهو يميل لتبني “وثيقة قانونية !!” اعدها قانوني اسرائيلي ، تدعي ان المناطق الفلسطينية هي ارض غير محتلة (لا أصحاب لها) يحق لإسرائيل استيطانها وضمها. لا يمكن تجاهل ان هذه وحدة اليمين ستعطيه مساحة واسعة لاستمرار سياسته الإقتصادية أيضا، سياسة الغلاء ،افقار الفقراء وتعزيز مكانة الأغنياء انطلاقا من النهج الإقتصادي الذي يؤمن به نتنياهو نفسه.
هذا التحالف او الاندماج اليميني ، اسقط الطابع الرسمي المتزن للحكومة ورئيسها من مختلف القضايا الملحة التي تواجه المجتمع الإسرائيلي. هي الآن حكومة سوائب المستوطنين الذين يمثلهم على أفضل وجه ، المستوطن وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان نفسه. يمكن القول ان القناع السلمي الذي يضعه نتيناهو ، بما يتعلق بالقضية الفلسطينية، قد أسقط نهائيا. وان الحرب ضد ايران، تعيقها حاليا ، الترددات الأمريكية التي يتوقع ان تتغير اذا تغير الجالس في البيت الأبيض، او ان التغيير اذا حدث او لم يحدث في البيت الأبيض، لا يؤثر على جر الآلة الحربية الأمريكية الى مغامرة عالمية من الأخطر على سكان العالم قاطبة.
ما يمكن ان يؤثر على الموقف الأمريكي – الإسرائيلي الذي يعد لتوجية عسكرية ضد ايران، موقف الدول الأوروبية السلبي من الحرب ضد ايران وخاصة ما اعلن ( حسب الغارديان البريطانية) عن رفض الحكومة البريطانية السماح للجيش الأمريكي ان يستعمل قواعدها في البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي، من اجل تعزيز قدراته العسكرية استعدادا لتوجية ضربة عسكرية لايران، هذا رغم العلاقات المميزة بين الدولتين. هل وحدة الوسط – اليسار يمكن ان يساعد في تغيير ميزان القوى في المجتمع الاسرائيلي؟ بمثل مواقف زعيمة حزب العمل ، الأقوى سياسيا في الوسط – اليسار، من القضية الفلسطينية المتماثلة بالتفاصيل مع مواقف نتنياهو وليبرمان ، لا يبدو ان الوسط – اليسار يملك القدرة الحقيقة او البديل للتاثير على الخارطة السياسية في اسرائيل ، وبالطبع عاجز عن الدفع نحو حل سلمي مع الفلسطينيين او وقف خطط المغامرات الحربية.
بقلم:نبيل عودة