إنّ تقييم الآخرين، و"منحهم" صفات ومزايا وألقاب يجعلنا نشعر بالكمال وبالرضا عن أنفسنا. نحنُ نصدرُ الأحكام على الآخرين غيابيًا دون أن نسمعَ شهاداتهم، ودونَ أن نتأكّد من صحّةِ المعلوماتِ التي استندنا عليها. قد يكونُ التسرّع في الحكم على الآخرين تملّصًا من مواجهة الحقيقة، ومحاولة لإبعاد الأنظار عنّا والتستّر على نواقصنا وعيوبنا!
نحن نسارع في إصدار الحكم على الآخرين دون أن نقوم باستدعائهم للإدلاء بشهاداتهم، أو للتّمحيص ببيّناتهم، أو لتفهّم وجهات نظرهم. تكفينا ذَرّة واحدة من المعلومات أو حادِثة عرضيّة أو نظرة عابرة أو إشاعة مغرّضة لنقوم بالحكم القاطع عليهم ولنأخذ منهم موقفا أزليًّا لا يتزعزع ولا يتغيّر حتى لو أتونا ببيّنات مُعاكسة وبمستجدّات مدحضة ومهما ادّعوا بأنّنا جائرون في الحكم عليهم.
عندما يقوم صديقٌ لنا بالتذمر من سوء معاملة زوجته له لدرجة أنّه لا يستطيع استدعاء صديق لزيارته في بيته، نسارع بوقوفنا إلى جانبه وتضامننا معه ونحكم على زوجته غيابيّا بالجحود والتقاعس عن القيام بدورها كشريكة حياة، دون أن نسمع ادّعاءاتها حول تصرّفات زوجها وعن انقطاعه التامّ عن تأدية دوره كزوج وكأب، وعن كونه إنسانا أنانيًّا لا يعير اهتماما لأحد إلا لنفسه ولمظهره ولمأكله وكأنّ الناس أتت إلى هذه الدنيا لتخدمه.
نحن نحكم على الناس حسب لباسها وشكلها ولونها ونوزّع الألقاب؛ هذا متحضّر وهذا رجعيّ وتلك المحجّبة محافظة وتلك التي تلبس البنطال القصير متحررة ولا نتورّع من استعمال ألقاب مثل "منحلّة" وكأنّ القشرة هي الأساس ولا يهمّ الجوهر. نحن نحكم على الناس حسب أسلوب كلامهم ولهجتهم والمنطقة الجغرافيّة التي يقطنوها وحسب طولهم وعرضهم ووسامتهم وانتساباتهم ولغة أجسامهم، ولا نعير اهتماما للأخطاء التي قد نقع بها، ولا بالجور الذي قد نُلحقهُ جرّاء تلك الأحكام الطائشة التي نقوم بها.
في المحصّلة، نحن نقوم في الحكم على الآخرين دون أن نملك الأدوات الكافية للحسم في الأمور كما هو متّبع في الجهاز القضائيّ الذي يحكم بين الناس بالاستناد على قوانين وشرائع وقواعد مُلزمة. عندما نقوم بالحكم على الآخرين نستعمل "دستورًا خاصّا بنا" مبنيّ على قيم خاصّة بنا وعلى سلوكيّات نتوخّاها من أنفسنا ومحظورات وخطوط حمراء وضعناها لأنفسنا. كثيرا ما ننسى أنّ هذه القيم و المتبعات والمعايير التي اخترناها لا نستطيع فرضها على كلّ شرائح المجتمع بغضّ النظر عن خلفيّتهم الاجتماعيّة والثقافيّة والاقتصاديّة والعرقيّة. من حقّ الناس أن تختلف عنا وأن يكون لها ناموس خاصّ بها.
تختلف المجتمعات فيما بينها بتعريف الشرف والأمانة والصداقة والحكمة والرجولة والأنوثة وغيرها من القيم والمصطلحات التي تبدو لنا لأوّل وهلة أنّها قيم عالميّة، ومصطلحات متداولة ولا تتغيّر بمرور الوقت ولا مجال لتفنيدها وعلى الإنسانية بأسرها أن تتماشى معها وهنا الإجحاف الأكبر.
هنالك من نحكم عليه بالبخل أو بالطمع أو بالقسوة لمجرّد تجربة واحدة أو حدث واحد أو مشهد واحد. السؤال الذي يطرح نفسه هو "لماذا نتسرّع في الحكم على الآخرين"؟ والإجابة على ذلك هي محاولة التهرّب من مَهمّة تقصّي الحقائق.
أوّلا، نحن لا نملك الوقت الكافي لسماع "الشهود" والاراء المغايرة وتحليل البدائل الماثلة أمامنا. وثانيا، "الحقيقة" نفسها لا تُعنينا و اجزاءٌ منها تكفينا. قد يكون حكمنا على الآخرين بالبخل هو تبرير لإسرافنا وتبذيرنا، وحكمنا عليهم بقسوة التعامل مع أولادهم انكار لعدم سيطرتنا على تربية أولادنا، واتّهامنا لهم بالطمع والركض وراء المال هو إنكار لتقوقعنا وتقتيرنا واتّهامنا لهم بالمغامرة يعكس عدم رغبتنا في المبادرة لتحسين أوضاعنا الاقتصاديّة، وحكمنا عليهم بالغرور والكبرياء يُعتقنا من محاولة الاقتراب منهم والتعرّف عليهم.
إنّ الحكم على الآخرين سلبا يجعلنا نشعر بالكمال والرضا عن النفس. هم جبناء يخافون من خيالهم، أمّا نحن فشجعان لا نعبأ بالمخاطر والصعاب. هم بخلاء لا ينفقون على راحتهم ولا يتمتعون بمالهم، أمّا نحن فكرماء وسخيّون ولا نفوّت فرصه للتمتّع والاستجمام. إنّ حكمنا على الآخرين سلبا يريحنا من مَهمّة المواجهة الحقّة ويعفينا من القيام بواجبنا تجاههم، وهو جزء من الآراء المسبقة التي نحملها حيالهم. نحن نحكم على الآخرين سلبا لتعزيز موقفنا ولمناصرة أصدقائنا وللوقوف إلى جانب أبناء عائلتنا وطائفتنا وحارتنا وبلدتنا وخرّيجي المدرسة التي تعلّمنا بها إن كانوا على حقّ وعلى غير حقّ.
بتسرّعنا في الحكم على الآخرين قد نخسر فرصا لبناء صداقات وشراكات وعلاقات كان بإمكانها أن تكون عونا لنا، أو سندا اجتماعيّا، أو مرفأ نفسيّا نحن في أمسّ الحاجة إليه.
من يقضي جلّ وقته في توزيع الشهادات على الآخرين- هذا عميل وهذا فاسد وتلك فاسقة وأخرى جاحدة، يريد أن يبعد الأضواء عن نفسه ويسلّطها على الآخرين ليسلم من انتقاداتهم أو لومهم أو ادّعاءاتهم. الحكم على الآخرين يهبنا شعورا وهميّا "بالتفوّق" على الآخرين والطامة الكبرى عندما ننجح بتجنيد آخرين ليتبنّوا الحكم الذي أصدرناه على غيرنا ظلما وبهتانا.
إنّ تجنيد آخرين لصفوفنا يجعلنا نغالي في جورنا وغيِّنا وإلى إلحاق الضرر الجسيم في "المجني" عليه.
خلاصة الأمر، من يحكم على الآخرين هو إنسان ضحل ومتهوّر كسول ومتملّص، وهادرٌ للفرص وظالم وجائر. هل لكم أن تطلقوا لقب "إنسان" على من يحمل كلّ تلك الأوصاف المذكورة"؟!