تك...تك ...تك ...تك.، الساعة تشير الى الكارثة والنصف ، والنافذة الوحيدة المطلة على الزقاق الضيق ، جدبت، تنتظر ان ترشقها خديجة بماء البَرد ، ليطرد الشر قبيل صلاة المغرب كما تعتقد . ظلت النافذة يابسة ، قلقة، تحملق بوجه الجدار المقابل ، لا ماء بَرد ، ولا شر طرد. يهتف رجل بصوت يأخذ بمجامع القلوب لصلاة المغرب ، كنت أعرفه منذ زمن بعيد ، جبان ، وأنتهازي ، ذو صوت ساحر، أدمنته نوافذ الحي العتيق ، سيما بعد أن أصبح مؤذن لمسجد الحي ، أعارني مرة شريط كاسيت" لجبار عكار" ، وآخر بصوته ، تشبثت بهما خديجة ودفعت ثمنهما وهي لا تملك جهاز للتسجيل !!!. تحرك جسدها النحيل المتعب، والمسجى على أريكة حديدية قبالة نافذة البََرد، تحرك بعد غيبوبة استسلم فيها عاجزا لأسنان فأر شرس ظل يقضم احشائها دون رحمة ، أيقضها نداء صاحبي الأنتهازي ذو الصوت العذب ، ربما هي تعرف أين يختبأ الشر ،لذا أستيقظت لتطرده من النافذه ، مستعينة بصوت صاحبي الجبان وماء البَرد ،لكنهاعادت لغيبوبتها بعد حراك ثقيل لجسدها الواهن والذي مزقته سكاكين ومشارط الأطباء دون جدوى . أتذكر يوم زفاف خديجة الدراماتيكي ، كانت امي تحمل آنية من ماء البرد ، تنثر قطراته على المارة وتتمتم بكلمات لم افهمها طيلة الطريق الى بيت العريس ، وهذا ما ساعد على اتمام ليلة الزفاف دون خسائر كما تدعي والدتي . ثمة آنية كبيرة أراها قرب المطبخ ، سأملأها بالماء وأغرق النافذة وكل نوافذ الحي ، ربما سيهرب الشر وتستيقظ خديجة من جديد ، فأنا اتضور جوعا ، ولا عشاء يشبعني سوى عشائها، ولدي الكثير من البوح. مخالب الوحدة في هذه الغرفة الرطبة والمعتمة اخذت تطوق عنقي ، تخنقني ، سوى تكتكات قضم أسنان ساعة جدارية لأوصال زمن تيبست عروقه على جدار أخرس، استسلم ، فأحيل الى عدم ، مثلما استسلمت خديجة للفأر الأكول ، وها هي امامي تصارع بما تبقى لها من قوة، جيوش فئران شرهة تفتك بجسدها النحيل غير مكترثة بعلب الدواء والمضادات الحيوية المخدرة، فهؤلاء الأطباء دجالون اوسعونا كذبا وعجزا وهرطقة ، تك....تك....تك..... !!! . لا احد له القدرة على طرد الشر ، على ايقاف ساعات العالم ، ريثما نجد حلا لمصائبنا ونلتحق بهم ، فالجميع على عجالة حتى الفئران تتسابق معنا ، مؤمنة بنظرية الحياة للقاضم لا للاصلح . ذات مساءا شباطي بارد طلبت مني ان ارافقها الى عيادة الدكتور" علي كمال " والكائنة عند ساحة الرصافي ، كانت تشعر بضيق وتوتر نفسي . دخلنا غرفة الدكتور ، كان مستغرق بالنظر الى تمثال الشاعر الرصافي من خلال شرفته المطلة على الساحة ، وكانه يراه لأول وهله، لم يلتفت صوبنا لعدة دقائق رغم مبادرتي له بالسلام ،قال بالحرف الواحد " اسعى يا اخي لتخفيف الضغوط على أختك المراة، واجعلها تغير نمط حياتها ، خذها الآن الى شارع أبي نؤاس وتناولا الكباب , وسيرا على طول الشارع حتى نهايته ، خذها الى حيث هي راغبة ، ففي ذلك متعة وعلاج لها، يفوق ما أعطيك من دواء مخدر" . ولكن كيف عرف الدكتور ان خديجة هي المريضة وليس انا ، هذا السر لا اعرفه حتى الساعة. وعملا بنصيحة الدكتور ، سأحمل هذا الجسد المثخن بالجراح غدا، وأطوف به شوارع بغداد ، وميسان ، وكربلاء، والبصرة ، واربيل ، وكل مدن العالم، ما عدا" وادي السلام "، الذي تخافه منذ زمن بعيد ، ولها حكايات طويلة معه ، أطوف بها عسى ان تستفيق خديجة وأخبرها بسر لا أحتمل كتمانه . هذا الفانوس اللعين ضّخم صورة لأنفي ، اسقطها فوق نافذة الَبرد ، بدا انفي ك خرطوم فيل . حركت خرطومي الى الأعلى والأسفل ، ترآى لي اشياء وصور مضحكة ، كنت بحاجة للضحك ، بحاجة الى العبث والنسيان ، بعد ان تضاءلت فرص العثور على الحل السحري ، كانت خديجة تشاركني ضجري ويأسي ، تشاركني في صنع صورحتى وأن كانت كاذبة للفرح، تغمرنا في النهاية سعادة لا توصف. تمايلت على الكرسي بتثاقل وانا استعرض رحلتي معها طيلة نصف قرن من الزمن وكانها لسويعات خلت، وكيف اصبحت حياتنا ك قطعة جبن لا تحتمل الضغط . فجأة توقفت سيارة عند نافذة البرد ، اقتحمت اضاءاتها الحمراء والبيضاء والصفراء شبك وزجاج النافذة ، ظلت تدور في غرفة خديجة ك اضواء مسرح دوار ، او ك واجهة ملهى ليلي يعرض عرضا اباحيا شيق . اختفى عندها خرطومي من فوق النافذة وشعرت بدوار مفاجىء وصوت هتاف مزق طبلة اذني : هل هذا هو بيت خديجة ؟؟؟ نهضتۥ من على الكرسي مستغربا ، وصحت ، نعم .... نعم .... هو ....هو ........... ( جاء الفرج ) . توجهتۥ نحو الباب الرئيسي ، كانت هناك سيارة اسعاف حديثة باضواء مبهرة بددت ظلام الزقاق ، اجتمع على اضوائها الأولاد، والنساء ، ومجانين الحي، وكلابه السائبة ، يقف عندها ثلاثة رجال وأمراة شقراء تبدو لي اجنبية . بادرني احد الرجال بالتحية ثم قال : نحن من اللجنة الدولية لتقصي الحقائق !!! . هل خديجة في البيت ؟؟؟ قلت بلا ، تفضلوا . دخلت الشقراء اولا تحمل حقيبة على شكل صندوق صغير، وطلبت مني انارة الغرفة ، اعتذرت عن ذلك لعدم وجود التيار الكهربائي ، انزلتۥ الفانوس من برجه، وقربته من وجهها الطافح بالحمرة، يشع نورا وحيوية . قالت : اين خديجة ، قلت : ها هي مرمية على السرير، اعتقد انها تحتضر . مدت يدها الشقراء بحذر نحو السرير وقالت : هل يمكن لها التحدث ، ام هي نائمة ؟؟؟ قلت هي في غيبوبة . قالت الشقراء بلغة عربية ركيكة : هل لي ببعض الاسئلة ؟؟؟ ، قلت على الرحب . - ماذا تعرف عن مرض خديجة - لا اعلم شىء - وما هو طبيعة عملها - هي لا تعمل - هل تحب خديجة الموسيقى - نعم ، هي تحب جبار عكار (عتابة ) ، وتحب الأبوذية ، وداخل حسن . - اسمع ، ليس لدي الوقت الكافي لأضيعه معك ومع هذا الأكار اي (عكار )، لدينا آلاف الحالات المشابهة . ونحن لا نملك الدواء الناجع الآن ، اطّلعنا على ملفاتها وتبين ان اليورانيوم المنضب فتك بالبنكرياس، مما اتى على باقي اعضاء الجسم . ونحن بدورنا كمنظمة انسانية نسعى الى تسليط الضوء على ذلك ، ومحاسبة المتسبب في هذه الجرائم البشعة، وتسليمه الى العدالة . اما الآن فما عليك سوى استلام هذين القرصين المدمجين ، ففيهما من الأرشادات والوصايا ما يريحها ويخفف آلامها، لحين وصول طائرة الامم المتحدة ، والتي ستهبط على ما اعتقد غدا عند الفسحة الترابية في نهاية هذا الزقاق . ما عليك سوى توقيع هذه الاستمارة باستلامك القرصين ، ولا تنسى ان تهتم بخديجة لحين وصول البعثه، طاب مساءك . أطرش بالزفة خير ما ينطبق عليّا ، ما علاقة خديجة بالذي قالته الشقراء ؟؟؟ ، اليورانيوم المنضب فتك بجسد خديجة !!!، وهل كانت خديجة تعمل بالابحاث الذرية ، او كانت تتاجر بالمواد الخارقة ، ثم ما حكاية هذين القرصين واللذين يبدوان لي ك (مهدارة ) شاي خديجة، اين ساضعهما .....هل....لا ادري ؟؟؟ ، ربما نسيت الشقراء ان تخبرني بضرورة ان اغمرهما ب (طاسة ) ماء لمدة محددة ، وبعد ذوبانهما نرمي الماء عند الغروب صوب نافذة البرد، قبل ان يهتف صاحبي الأنتهازي حسب توقيت اليورانيوم المنضب لعموم العراق والدول المجاورة . وفي ساعة متأخرة من الليل ، بعد ان عانت خديجة من سكرات الموت ، اخذ صاحب لي القرصين ، وادخلهما جهازه الكمبيوتر ، عّله يجد فيهما ما ينفعنا ويخفف آلامها ، تبين انهما أغاني من كليب مشهور ل" مايكل جاكسن " ، والتشييع المهيب لجثمانه وسط دموع المودعين على شبكة CNN الامريكية الاخبارية . في ظهيرة اليوم التالي هبطت سيارة كوستر بدلا من طائرة الهليكوبتر ، هبطت عند الساحة الترابية للزقاق حملت خديجة لا الى شارع ابي نؤاس ، ولا الى ميسان ، ولا الى أية مدينة او مشفى او منتجع صحي في العالم، حملتها الى وادي السلام ،حيث تخاف، حملتها الى مناجم اليورانيوم المشع ، والتي عُبئت بها اجساد الاطفال والشباب والصبايا .... ونوافذ البرد !!! . ايتها السومرية الجميلة نبل منك ان تصفحي عني وها انا احمل لك كاسيت جديد عتابة ل" جبار عكار " لم تسمعيه من قبل لنبكي سويه آه....آه....آه .... يابه رحل عني شريك العقل لا وين كدر وهموم بالدلال لا وين آه ....آه ....آه ...يابه ايتها البوصلة السومرية الساحرة دعيهم يبقوا على نافذة البرد مفتوحة لتفوح منها رائحة البخور ربما تسرقني قدمي يوما الى هناك وأموت غروبا عند النافذة ايتها السومرية المحاربة ابتسمي ودعي ٳيمان تصرخ فجرائم العصر ضد مجهول !!! • البَرَد : - بفتح الباء والراء - عبارة تستخدمها النسوة وخاصة كبار السن منهن ، لأبطال الشر ، او مفعول السحر، او اي أمر غير مرغوب فيه . خديجة : اخت لي غادرتنا قبل اشهر ، واحدة من آلاف ضحايا اليورانيوم المنضب . إيمان : ابنة اخت لي ، واحدة من ضحايا اليورانيوم المنضب ، اقتنصها الفأر وهي في ريعان شبابها .