(1) المطر عديد المعاني. يتعلّق الأمر بالحالة. فأن تعلق حتى التاسعة مساء على ناصية شارع في جو ماطر بارد فيما تروح دقائق مواعيدك تتناقص، لا يشبه الوقوف في دفء الغرفة قرب الشبّاك وأنت تجدل خيط نظرك بخيط الماء النازل من السماء ضفائر ضفائر.
فرحة الفلاحين الذين يعلو منسوب فرحهم برؤية كل هذا الخير لزيتونهم وكرمتهم، لا تتوافق مع خيبة ثلاثة أصدقاء ينتظرون ساعات مشمسة قليلة علّهم يرمون صنانيرهم في بحر الحظّ فيما تيسّر لهم من نهاية أسبوع.
نشوة الوردة بما سيحبل عمقها من ماء لن يفرح به قِطّ شوارع يأكله الجوع وهو ينتظر بعض صحوٍ لعلّه يجد شيئًا في الحاوية الخضراء.
المطر ربما مثلنا، مثل أحوال الناس. فوائده عند قوم مصائب لسواهم.
مع ذلك فلا أبهى من شوق التراب الى الماء.
(2)حضرات السائقين والسائقات. هناك مشاة على الطرقات. حين يملأ الماء الأسفلت، خففوا الوطء، وامنعوا عن السابلة فائض الماء، فهو ينهمر عليهم بكرَمٍ من السماء!
(3)وسط احتفالات دولة اليهود بارتفاع منسوب بحيرة الجليل (طبريا)، كان الماء يكتسح الشوارع ويستقرّ في البحر. بعد أيام سيعود النّواح.. يا لبشاعة التذمّر الاسرائيلي. فهلاّ تنازلتم عن دبابة او اثتنين واستثمرتهم ثمنها في مجمّع او اثنين لماء المطر.
كم أمقت تبرّم "الأقوياء" والأثرياء.
(4)هل سيفرح بالمطر مَن رماهُ "النظام" داخل خانة متشرّد في شوارع البرد؟
ليت المطر يصير إعصارًا يغمر كطوفان نوح جميع المتبلّدين حيال ألم التعساء. ليته يتجسّد كاللعنة على محتكري النعمة. وتحية دافئة لكل Homeless.
(5)لماذا كلّ هذه الأجواء الاحتفالية التي تندلع مع قدوم فقرة الأحوال الجوية في نشرات الأخبار؟
لماذا ينقلب الاستوديو فجأة الى فضاء من السماجة الصحفيّة؟
وهذا مع أنّ الحديث أبعد ما يكون عن ايراد الحقائق، فكل ما في الأمر سيلٌ هشّ من التوقّعات.
لربما أن هذا هو السبب. فالكل يعي أن لا شيء يضمن هطول المطر المخمّن ولا سطوع الشمس المرتقبة.
وسط كل هذا اللايقين لا بدّ – كما يبدو – من بعض الطقوس الوثنيّة.
احتفالية حالة الطقس في الأخبار، لا تختلف كثيرًا عن طقوس استقدام المطر عند قبائل الماضي السحيق؛ أجدادنا الأعزاء.
(6)لو أن الشتاء ماطر بلا برد..
لو أن الصيف مشمس بلا حرّ..
لو أن الحياة فرح بلا حزن..
لو أن الحبّ حبٌّ بلا عناء..
لو أنّ..
لو أنّّ..
يا للملل..
يا للغباء..
(7)الشتاءات التي مرّت في قلب حبّ لن تشبه أبدًا شتاءات ينقصها دفئه، أو دفئها. ماكسيموم سيلتقي المحرومون والمحرومات من دفء هذا الموسم لليلة او اثنتين، قبل العودة الى بردهم الصباحيّ.
مع هذا، فلا شيء يمكنه صدّ شمس الربيع القادم.
(8)أجمل صوت لصفير الريح حين تكون وحيدًا. فالأنفاس ستفسد عليك اللحظة. حتى أنفاسك أنتَِ.
(9)بدر شاكر السيّاب، شاعر حداثة العراق:
"مَطَر ... مَطَر... مَطَر... تَثَاءَبَ الْمَسَاءُ ، وَالغُيُومُ مَا تَزَال
تَسِحُّ مَا تَسِحّ من دُمُوعِهَا الثِّقَالْ . كَأَنَّ طِفَلاً بَاتَ يَهْذِي قَبْلَ أنْ يَنَام : بِأنَّ أمَّـهُ - التي أَفَاقَ مُنْذُ عَامْ فَلَمْ يَجِدْهَا، ثُمَّ حِينَ لَجَّ في السُّؤَال قَالوا لَهُ: " بَعْدَ غَدٍ تَعُودْ .. " - لا بدَّ أنْ تَعُودْ وَإنْ تَهَامَسَ الرِّفَاقُ أنَّـها هُنَاكْ في جَانِبِ التَّلِّ تَنَامُ نَوْمَةَ اللُّحُودْ تَسفُّ مِنْ تُرَابِـهَا وَتَشْرَبُ المَطَر؛
كَأنَّ صَيَّادَاً حَزِينَاً يَجْمَعُ الشِّبَاك وَيَنْثُرُ الغِنَاءَ حَيْثُ يَأْفلُ القَمَرْ . مَطَر ... مَطَر ... أتعلمينَ أيَّ حُزْنٍ يبعثُ المَطَر؟ وَكَيْفَ تَنْشج المزاريبُ إذا انْهَمَر؟ وكيفَ يَشْعُرُ الوَحِيدُ فِيهِ بِالضّيَاعِ؟ بِلا انْتِهَاءٍ - كَالدَّمِ الْمُرَاقِ، كَالْجِياع، كَالْحُبِّ، كَالأطْفَالِ، كَالْمَوْتَى - هُوَ الْمَطَر "
(من قصيدة "أنشودة المطر")
10
ونظلّ نغنّي:"شتّي يا دنيا تَيزيد موسمنا ويحلى.." (فيروز، طبعًا).
عن:- جريدة الأتحاد