في الوقت الذي يتجه العالم كله، باستثناء جزر سوداء قاتمة مثل الصومال وأفغانستان حيث يسيطر الإرهاب الأصولي المتطرف، إلى المزيد من العمل الجاد في مناهضة كافة أشكال العنف والتمييز ضد المرأة، على كافة المستويات: السياسية والاقتصادية والمجتمعية والقانونية.. تختار الحكومة السورية اتجاها معاكسا تماما. فقد برهنت هذه الحكومة، خاصة بعض مفاصلها مثل رئاسة مجلس الوزراء ووزارات العدل والأوقاف والشؤون الاجتماعية، أنها لا ترى في المرأة السورية إنسانا ولا مواطنة، بل فقط جارية وبائعة متعة جنسية ووعاء لإنجاب سلالة الذكور. ليس فقط برفضها المزمن لإزالة أبشع أشكال العنف ضد المرأة والمجتمع المتمثل بالمواد القانونية الداعية إلى قتل النساء السوريات مع وعد بالمكافأة بتخليص القتلة من العقاب (المادة 548، أو ما صار اسمها المرسوم رقم 37- والمادة 192، من قانون العقوبات)، (إضافة إلى قانون الجنسية، وسكن الحاضن، وغيرها..) بل باتجاهها منذ أوائل هذا العام إلى تمرير مشروع قانون لا يتمناه عدو ولا صديق لسورية! مشروع قانون لا هدف له ولا غاية سوى تحقير النساء السوريات، وتأسيس المقدمات الضرورية لتقسيم سورية إلى دويلات طوائف، بعد أن يقوم هذا المشروع، عند إقراره كقانون، بإلغاء انتماء المواطنة في سورية، الشرط اللازم والضروري لوجود الدولة، واعتماد الانتماء الطائفي بديلا عنه. وسبق أن أكد مسؤولون/ات مختلفون/ات في الحكومة، في مناسبات مختلفة، استهجانهم أن تحتفل سورية باليوم العالمي لمناهضة العنف ضد المرأة، مدعين أن سورية لا تعاني من هذا العنف نهائيا! فيما أكدت دراسة رسمية صادرة عن الاتحاد العام النسائي، حاولوا إخفاءها وإخفاء نتائجها، أن امرأة من كل أربع نساء سوريات تتعرض يوميا للعنف! وهذه النتيجة لم تحصل إلا بعد التفافات واضحة في الدراسة للقارئ العادي بهدف التخفيف من النتائج الحقيقية التي هي أسوأ من ذلك بكثير. من الصحيح أن سورية كانت سباقة في تسهيل الطريق أمام المرأة السورية، سواء عبر الدستور أو عبر قوانين العمل والتأمينات، أو عبر اندماج المرأة في العمل وفي بعض مواقع صنع القرار. لكن تلك سورية مختلفة. أو بالأصح: الحكومة السورية تريد لها أن تكون مختلفة. فما تخطط له هو الانقضاض على تلك الخطوات التي كانت متقدمة ذات يوم، للقضاء عليها، وإعادة زمن "باب الحارة" الوهمي الأسود إلى سورية! وذلك عبر رفض الترخيص لعشرات الجمعيات التي حاولت أن تعمل من أجل مناهضة هذه العنف، وإعاقة عمل ما هو موجود منها! وكذلك عبر التضييق على الإعلام السوري في الخطاب المناهض لهذا العنف، وتمييع مواضيعه ودفعها باتجاهات أخرى! وأيضا والأهم، عبر رفض العمل على قانون أسرة عصري يقوم على أساس المواطنة، وبذل كل الجهود من أجل مشروع قانون يكرس العنف ضد النساء، ويعيدهن إلى عصور الجاهلية! وتعرف الحكومة السورية ما تفعله من أجل دفع وضع المرأة إلى الوراء. لذلك لا تجرؤ على العمل علنا. بل تعمل تحت الطاولة. وكلما انكشفت مخططاتها سارعت إلى نفي ذلك، وإلى الادعاء أن ما يجري الحديث عنه مختلقا. بينما هي التي تخلق هذه المشاريع، وتختلق التضليل حول وجودها.
في الوقت نفسه، وبكل أسف، تقف بعض الأحزاب التي تدعي العلمانية والوطنية والاشتراكية في سورية، سواء كانت في الحكومة أم خارجها، لتتفرج على ما يجري، في تواطؤ صريح أو ضمني مع هذا الاتجاه. ربما حفاظا على مصالحها أو وهم مصالحها. والأمر نفسه، بأسف أشد، ينطبق على أغلب المنظمات والجمعيات التي تحمل في اسمها مصطلح "حقوق الإنسان". فهي قد اختارت أن تصمت نهائيا عن هذا المشروع الذي ينتهك حقوق الإنسان جملة وتفصيلا! وعلى ما يبدو أن هذه المنظمات قد اختارت الموافقة الصامتة على أي انتهاك لحقوق الإنسان يصدر تحت مسمى "الشريعة" من قبل بعض من أصحاب السلطة في الحكومة، ومن أصحاب سلطة "التكفير"، وأصحاب "صكوك الجنة"، ممن تقبل أياديهم وأرجلهم كل صباح حتى تكاد "شفاعتهم ترتجى"! ويقترب من الوضع نفسه، وإن بمسافة، وضع غالبية المنظمات والجمعيات العاملة في الحركة النسوية، إذ اختارت أن تتبع أسهل الطرق وأكثرها تأمينا لمصالح أفرادها. فأغلبها لا يتذكر من قضايا المرأة إلا ما يدر عليه ربحا! سواء في دراسة مدفوعة الأجر، أو في دورة تدريبية ترفيهية! بل إن هذه المنظمات رفضت طوال السنين الماضية حتى أن تساعد الناس المحتاجين والمتعطشين للمعرفة في سورية، وكنزت كتبها وأدلتها وخبراتها في حقائبها لتباع لمن يدفع أكثر! فالوضع اليوم في المنظمات والجمعيات العاملة في "الحركة النسوية" في سورية، لا يسر خاطرا. وهي تعاني من أزمات مستفحلة، سواء داخلها، أو في علاقاتها بعضها ببعض، خاصة في مستوى أدائها وفعاليتها. وتتحمل هذه الجمعيات والمنظمات، والقائمون/ات عليها، جل المسؤولية عن هذا الوضع. فرغم الصعوبات الكثيرة للعمل في سورية، إلا أن هذه الجهات لم تستنفد حتى 5% من الإمكانيات المتاحة. وبالتالي فإن التذرع بالصعوبات نافل كليا. إننا في اليوم العالمي لمناهضة العنف والتمييز ضد المرأة، نؤكد أن رفع هذا العنف والتمييز ليس منة من أحد، بل هو حق أساسي من حقوق الإنسان. وحق أساسي من حقوق المواطنة. ولا يمكن لوطن أصلا أن "يكون آمنا ونصفه غير آمن"، تلك الجملة التي عملت وسائل الإعلام السورية كلها على التعتيم عليها، رغم مقام من قالها، لأنها لم تناسب الرؤية الذكورية للحكومة! وندعو جميع الأحزاب والمنظمات والجمعيات إلى الخروج من النفق المظلم الذي نحن فيه اليوم، وذلك عبر العمل الجاد بعيدا عن المصالح والمساومات، من أجل إيصال المعرفة الحقيقية والصحيحة إلى الناس. فالناس، في كل مدينة وقرية، في كل حي وشارع، هم من يعيشون هذا العنف والتمييز كل يوم، كلهم ضحايا له بشكل أو بآخر. وهم من يحتاجون العمل والجهد من أجل الخروج من دائرة العنف المغلقة. ولا بأس من دفع بعض "الضرائب"، فالتطور لا يأتي على طبق من ذهب! وفي الوقت نفسه، نشد على أيدي كل الجهات، والأفراد، خاصة الشباب والصبايا في مواقع مختلفة من المجتمع السوري، الذين/اللواتي جعلوا من قضية المرأة قضية ذات أولوية في السنين القليلة الماضية. وأعادوا تثبيت أن هذه الحقوق هي حقوق مواطنة أساسية وليست منة من أحد. وأنهم عازمون/ات على المضي قدما من أجل مجتمع عادل ومتساو قائم على أساس المواطنة وخال من العنف والتمييز. وهؤلاء من أثبتوا أن المجتمع السوري مجتمع حي وليس كما يشاع عنه، أو يراد له أن يكون.
اليوم العالمي لمناهضة العنف والتمييز ضد المرأة (25/11)، هو مناسبة حزينة لنقول كلنا: لا للعنف ضد المرأة، لا للعنف ضد الإنسان، لا للعنف ضد الوطن. فجميعها تخرج من بوتقة واحدة، وجميعها تؤدي إلى نتيجة واحدة: تمزيق الوطن والحط من الإنسان. وبهذه المناسبة، يعيد "مرصد نساء سورية" تأكيد إطلاق "29/10 يوما عالميا للتضامن مع ضحايا جرائم الشرف"، والعمل على تكريسه عالميا، خاصة تبني الأمم المتحدة له، وذلك انسجاما مع العمل المتواصل في "الحملة الوطنية المناهضة لجرائم الشرف" التي أطلقها المرصد منذ أيلول 2005، والتي ستبقى متواصلة إلى حين انتهاء هذه الجريمة البشعة من المجتمع السوري: قانونيا، مؤسساتيا، دينيا، ومجتمعيا.
- "افتتاحية مرصد نساء سورية"، (في اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد المرأة: سورية تتجه إلى المزيد من تأييد هذا العنف!) خاص: نساء سورية