فهمي هويدي
مفاجأة انتخابات الرئاسة الإيرانية مضاعفة، ذلك أنه خلافا لكل التوقعات، فإن أحمدي نجاد لم يفز فحسب، وإنما تم له ذلك في الجولة الأولى ودون إعادة. وهو أمر يبدو أنه استغربه أيضا!
(1)
" لأن الفقراء والبسطاء هم الأغلبية في إيران، ولأن أحمدي نجاد منذ انتخابه قبل أربع سنوات كان يقضي معهم أسبوعا كل شهر في محافظة مختلفة مصطحبا معه أعضاء حكومته لحل مشكلاتهم، فإن أغلبيتهم الساحقة صوتت لصالحه " كنت قد عزمت على السفر إلى طهران لمتابعة الانتخابات التي بدا أنها الأكثر سخونة وخشونة في تاريخ الثورة الإسلامية، حتى وصفها أحد المعلقين بأنها من قبيل صراع الأفيال الذي لا يستطيع فيه أي فيل أن يسقط الآخر بسهولة.
وحين شرعت في ترتيب أمر السفر قال لي أكثر من "خبير" إن المعركة ليست سهلة، وإن أحدا لن يكسبها في الجولة الأولى، ولن تحسم إلا في الإعادة التي ستتم بعد أسبوع لاحق.
بسبب التزامات العمل كان من الصعب علي أن أغيب مدة أسبوعين في متابعة الجولة الأولى والإعادة، ووجدت أنه من الأنسب أن أمرر جولة 12 يونيو/حزيران الأولى، وأن أسافر بعدها إلى طهران لأشهد معركة الحسم في الإعادة يوم 19 يونيو/حزيران.
شجعني على ذلك أن ما سمعته عن ترجيح الإعادة لم يكن رأيا لواحد أو اثنين، ولكنه تقدير اتفق عليه أربعة من "الخبراء"، ثلاثة منهم إيرانيون والرابع لبناني "مطلع".
واحد فقط غير رأيه قبل 48 ساعة من إجراء الجولة الأولى، هو الزميل محمود شمس الواعظين رئيس التحرير السابق لصحيفة كيان التي حسبت على الإصلاحيين وأوقفت، ذلك أنه أخذ بمشهد المظاهرات العارمة التي انطلقت في طهران ملوحة بالرايات الخضراء رمز المهندس موسوي، فاتصل بي هاتفيا من طهران قائلا إن الأمور تتجه إلى التغيير، وإن المعركة ستحسم في الجولة الأولى لصالح المهندس موسوي!
حينما دققت في الصورة لاحقا، أدركت أن الذين أكدوا الإعادة ومن رجح حسم المعركة لصالح موسوي من الجولة الأولى تحدثوا عن أجواء طهران وبنوا تقديراتهم على المواكب الحاشدة التي ملأت العاصمة ضجيجا وخطفت الأبصار في شارع ولي عصر أكبر وأطول شوارع المدينة.
وحتى أكون أكثر دقة فلعلي أقول إن تلك كانت أجواء شمال طهران، وهي المنطقة التي تتعدد فيها الأحياء الراقية ويسكنها القادرون الذين يملكون السيارات التي ظلت تجوب العاصمة طوال الليل.
أما جنوب طهران، حيث تنتشر الأحياء الفقيرة وتعيش الطبقات الشعبية، فلم يعرف هذه المواكب، ولم يكن سكانه يسهرون إلى ما بعد منتصف الليل، أولا لأنهم لا يملكون سيارات، وثانيا لأنه عليهم أن يستيقظوا في الصباح الباكر ليجري كل منهم وراء رزقه.
في كل الانتخابات التي شهدتها إيران كانت طهران هي القاطرة التي ما إن تتحرك في اتجاه حتى تجذب بقية المحافظات وراءها، لكن القاطرة تعطلت هذه المرة إذ سارت الأصوات فيها باتجاه موسوي، بينما اختارت الأغلبية الصامتة في بقية المحافظات أن تصوت لأحمدي نجاد.
إذ طبقا لتقديرات الداخلية الإيرانية فإن موسوي تفوق على أحمدي نجاد في مدينتين فقط هما طهران وأردبيل، وتساوى الاثنان تقريبا في أربع مدن أخرى، في حين حصل أحمدي نجاد على أكثر من ضعف أصوات موسوي في القرى والمناطق الريفية، وكان الاكتساح أوضح في محافظات الأطراف خصوصا بين الأكراد والعرب.
(2)
معلوماتي أن أحمدي نجاد نفسه فوجئ بالنتيجة، وكذلك بعض استطلاعات الرأي التي لم تكن خلال الأيام الأخيرة مطمئنة له. لذلك فإنه التزم الصمت ولم ينطق بكلمة طوال عملية الفرز، في حين أن موسوي استبق الأمور وعقد مؤتمرا صحفيا أعلن فيه فوزه.
بعض المحيطين به قالوا إنه حين حل يوم الحسم، كان قد بح صوته من كثرة ما تحدث في الرد على ناقديه وخصومه، خصوصا أنه أدرك أن المرشحين الثلاثة الآخرين، لا يتنافسون فيما بينهم بقدر ما أنهم اجتمعوا عليه. وهو ما بدا واضحا في خطابهم الإعلامي وفي المناظرات التي تمت بين كل واحد منهم وبينه.
وكانت تلك المناظرات في حقيقتها محاكمات علنية، ربما أشبعت رغبات المثقفين المعنيين بالشأن السياسي والاقتصادي، لكنها كانت في صالحه من ناحية أخرى. إذ ثبتت في أذهان عامة الناس أن أحمدي نجاد واحد منهم وأنه أصدق تعبير عنهم. إذ قدم نفسه بمظهره البسيط وجسده النحيل ووجهه الذي لا تظهر عليه آثار النعمة، حتى بدا صورة طبق الأصل لأي حرفي أو عابر في الشارع.
عزز من تلك الصورة إدراك الناس لحقيقة أنه يعيش حياة بسيطة، لم ينس فيها أنه ابن حداد في قرية أرادان التي تسكنها 40 أسرة فقط، ولا مكان لها لا على الخريطة الجغرافية أو الاجتماعية في إيران.
ثم إنه كأي مواطن ريفي، شديد التدين والتواضع، ولم يعرف عنه تعلق بالوجاهة أو الثراء. ولأنه "واحد منهم" فقد ظل طوال السنوات الأربع الماضية مشغولا بتحسين أوضاع الفقراء والضعفاء، ومتفننا في كيفية توفير الخدمات لهم والتخفيف من أوجاعهم، خصوصا من خلال رفع الحد الأدنى للأجور وزيادة معاشات المتقاعدين.
ولأن الأمر كذلك، فلم يكن مستغربا أن يلتف حوله الفقراء، وأن لا تكف نخب المثقفين وسكان المدن عن توجيه النقد إليه والنفور منه.
" مما لفت الانتباه في مواقف موسوي أنه رفع في مؤتمر عقده بجامعة طهران شعار "إيران أولا"، وأبدى في لقاء آخر تحفظا على الدعم الإيراني لحزب الله وحركة حماس " المرشحون الذين كانوا يتحدَّونه في المناظرات كانت صورتهم مختلفة. عند الحد الأدنى فجميعهم كانوا يطلون على الناخبين بوجوه تطفح بآثار الرخاء والنعمة.
مير حسين موسوي الأرستقراطي ابن تاجر الشاي المتكئ على رئيسين سابقين هما رفسنجاني وخاتمي، والأخيران من وجهاء السياسة، والأول من أهل الثراء.
والشيخ كروبي رئيس مجلس الشورى السابق الذي يرأس مؤسسة الشهيد، الأكثر ثراء في إيران. والثالث هو رضائي الذي قاد حرس الثورة طوال 16 عاما، ويحتل منصبا رفيعا في مجمع تشخيص مصلحة النظام.
لأن الفقراء والبسطاء هم الأغلبية في إيران، ولأن أحمدي نجاد منذ انتخابه قبل أربع سنوات كان يقضي معهم أسبوعا كل شهر في محافظة مختلفة مصطحبا معه أعضاء حكومته لحل مشكلاتهم، فإن أغلبيتهم الساحقة صوتت لصالحه.
أما منافسه مير موسوي فقد صوتت لصالحه أعداد معتبرة من سكان المدن، وهذا الانحياز يفسر حالة الغضب التي اعترت البعض في طهران مثلا، ودفعتهم إلى الخروج غاضبين إلى الشوارع. الأمر الذي أوقع التداعيات المؤسفة التي ترتبت على ذلك، وأدت إلى إحراق بعض السيارات والاشتباك مع الشرطة.
(3)
المهندس حسين موسوي رئيس الوزراء الأسبق غاب عن المسرح السياسي طوال العقدين الأخيرين، وحين ترك الحكومة في عام 1989 كان الرجل معروفا بميوله الاشتراكية ومحسوبا على المحافظين.
لكنه عاد هذه المرة محمولا على أكتاف الإصلاحيين، ومؤيدا بقوة من رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام الشيخ هاشمي رفسنجاني والرئيس السابق السيد محمد خاتمي، والأخير ظل يصحبه في جولاته ويخطب داعيا له في المؤتمرات الشعبية التي نظمها أنصاره، لأن موسوي ليس خطيبا جيدا.
وخلال المناقشات التي دارت في تلك الجولات رأى المحللون وجها مغايرا له، مختلفا عما ألفوه فيه، إذ قدم نفسه باعتباره رجلا "معتدلا" حتى بالمفهوم الشائع في العالم العربي.
فإلى جانب حديثه عن الحريات العامة ودفاعه عن حقوق المرأة والشباب والتعددية الحزبية، فإنه دعا إلى أمرين أثارا الانتباه واللغط، الأول الانفتاح على الغرب والتعامل بمرونة مع الولايات المتحدة الأميركية، بدعوى إخراج إيران من العزلة السياسية التي أوقعتها فيها سياسة أحمدي نجاد، بلغته المتشددة والمثيرة للجدل.
ورغم أنه تمسك بحق إيران في استكمال برنامجها النووي -وهو الموضوع الذي لم يختلف عليه أحد من المرشحين- فإن الاختلاف بينهم كان في حدود التشدد والمرونة التي ينبغي أن يلتزم بها المفاوض الإيراني.
واعتبر موسوي أن "تطرف" أحمدي نجاد كان مصدرا لإثارة مخاوف الغرب من ذلك البرنامج، وتعهد من جانبه بأن يسعى لطمأنة الدول الغربية وكسب ثقتها من خلال خطاب ورؤية جديدين.
الأمر الثاني الذي لفت الانتباه في مواقف موسوي أنه رفع في مؤتمر عقده بجامعة طهران شعار "إيران أولا"، وأبدى في لقاء آخر تحفظا على الدعم الإيراني لحزب الله وحركة حماس، وقال في هذا الصدد إن حكومتنا تتحدث عن عزة الشعب اللبناني وعزة الشعب الفلسطيني، في حين أنها تتجاهل عزة الشعب الإيراني، ملمحا إلى الغلاء والبطالة.
ونقل عن بعض أنصاره قولهم إن موسوي "سيوقف نهب مال الإيرانيين وإعطاءه للآخرين في الخارج. فالمصباح الذي يحتاجه البيت حرام على الجامع"، وهو ما رد عليه أنصار أحمدي نجاد قائلين: كيف يمكن لموسوي أن يعتبر نفسه ملتزما بخط الثورة ومواقف الإمام الخميني وهو يروج لهذه الأفكار، في حين أن الإمام وهو يدافع عن كرامة ورفاهية الشعب في إيران، لم يغفل عن الأخطار التي يمثلها الأميركيون والإسرائيليون، ولم يتردد في مقاومة مخططاتهم ومساندة قوى التحرر من شرورهم.
هذه الخلفية جعلت معارضي موسوي يتندرون على اللون الأخضر الذي اختاره شعارا يميزه، ويقولون إنه ليس علامة على النماء والحفاظ على البيئة كما يقول، ولكنه بمثابة إشارة خضراء تدعو الأميركيين وأنصارهم إلى اختراق النظام الإيراني: "للعلم، أحمدي نجاد اختار اللون الأحمر، وهو رمز فريق بيروزي لكرة القدم، الأشهر في إيران. والكلمة معناها الانتصار".
(4)
" تدل مؤشرات عدة على أن الإدارة الأميركية الجديدة قررت أن تتعامل مع إيران باعتبارها طرفا ولاعبا مهمّا في الشرق الأوسط، وتعاونها معه مهم ومفيد في التعامل مع عدة ملفات في العراق ولبنان وفلسطين " إسرائيل لم تكن سعيدة بفوز أحمدي نجاد، أما واشنطن فكانت أكثر حذرا. والموقف الأول مفهوم، أما الثاني فيثير الانتباه. إن شئت فقل إن الأول تقليدي، والثاني ينسجم مع الخطاب التصالحي للرئيس أوباما الذي دعا فيه إلى إجراء حوار مع إيران دون شروط مسبقة، وعلى أساس من الاحترام المتبادل.
وهذه هي الأجواء التي دفعت الأميركيين إلى دعوة الدبلوماسيين الإيرانيين لحضور احتفالات اليوم الوطني، وإلى المشاركة في المحادثات المتعددة الأطراف المتعلقة بالشؤون النووية.
والثابت أن حوار الطرفين بدأ بالفعل، وهناك اجتماعات متواصلة تعقد بينهما في جنيف. وتدل مؤشرات عدة على أن الإدارة الأميركية الجديدة قررت أن تتعامل مع إيران باعتبارها طرفا ولاعبا مهمّا في الشرق الأوسط، وتعاونها معه مهم ومفيد في التعامل مع عدة ملفات في العراق ولبنان وفلسطين.
وهناك اعتبار آخر مهم برز في الآونة الأخيرة، يتعلق بالوجود الأميركي في أفغانستان، لأن القوات الموجودة هناك، ستواجه مأزقا شديدا خلال الأشهر القليلة القادمة. ذلك أن تلك القوات (60 ألف جندي) بدأت تواجه من الآن مشكلة في وصول الإمدادات التي اعتمدت فيها على باكستان خلال السنوات التي خلت.
فقد أصبحت هذه الإمدادات في خطر الآن بسبب عدم الاستقرار الذي يسود الحدود بين البلدين، وفي بحث الأميركيين عن بديل لإمداد قواتهم لم يجدوا أمامهم سوى مدخلين، أحدهما عن طريق جمهوريات آسيا الوسطى، والثاني عن طريق إيران.
ومشكلة الطرق في الخيار الأول أنها تظل مغلقة بسبب الثلوج طوال ستة أشهر في السنة، الأمر الذي يؤدى إلى تعطيل المرور وتوقف الإمدادات خلال تلك الفترة. وبعد استبعاد جمهوريات آسيا الوسطى تصبح إيران هي الخيار الوحيد المتاح أمام الأميركيين.
ولأن حدودها مع أفغانستان بطول 860 كيلومترا، فإنها تعد معبرا نموذجيا يضمن توفير احتياجات القوات الأميركية على مدى العام. ولأن الأمر كذلك فإن الأميركيين حريصون على إنجاح الحوار مع إيران والاتفاق على المقابل الذي ستتلقاه في هذه الصفقة إذا عقدت.
من هذه الزاوية فإن تجديد انتخاب أحمدي نجاد للرئاسة لا يبدو أن له تأثيره على السياسة الخارجية، التي يتولى المرشد علي خامنئي مفاتيحها الأساسية. ولنا أن نحمد الله على أن تلك السياسة نجت من رياح "الاعتدال" الذي بشر به مير موسوي.
سألت خبيرا إيرانيا عن الخاسر الأكبر في الانتخابات، فقال إنه هاشمي رفسنجاني وليس موسوي، لأن الرجل الذي يعد أحد أعمدة النظام يشغل اثنين من أهم مناصب الدولة "رئيس مجلس الخبراء، ورئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام" اتهمه أحمدي نجاد أثناء إحدى المناظرات العلنية بالفساد المالي هو وابنه، فجرح صورته وأهدر سمعته، ولم يبال باحتجاجه لدى المرشد، الأمر الذي يعد اغتيالا أدبيا وسياسيا له، يطعن في شرعيته وفي الظروف العادية فإن ذلك يفترض أن يسدل الستار على دوره السياسي.
المصدر: الجزيرة