حين نكتب عن رواية فهناك خطان يتسايران الأول أحداث الرواية نفسها والثاني تعليقنا على الأحداث ومقولة الرواية، ولكن بعض الروايات ولكثرة ما يكتب عنها أو يقال أو لشدة إعجابنا يطغى الخط الثاني على الأول ولا يترك له سوى حيز بسيط.. هذا ما حدث معي وأنا اكتب عن (عزازيل) رواية المفكر العربي والفيلسوف يوسف زيدان والحائزة على جائزة البوكر لعام 2008والتي أثارت كثيرا من الجدل والتعليقات لعل أكثرها واقعية كلمة الأستاذ شوقي بغدادي: (رواية اكبر من جائزتها). حين قرأتها شعرت بالغبطة الحقيقية لأننا في هذا التردي الحقيقي على جميع الأصعدة نجد رواية بهذا المستوى وكاتبا عربيا في هذا العصر لديه الجرأة والأسلوب لخرق القلق الفاجع الذي نعيشه. ما الذي أحدثته الرواية ؟؟ هو هذا الخرق الواضح للمحظور! حين بدأ الإنسان يبحث عن سر هذا الكون ووجوده كان هناك دافعا وحيدا هو البحث عن الطمأنينة في اكتشاف المحيط ومعرفة الكون وتكوين فكرة عن بدء الخليقة فكان الدين الذي بدأ بإثراء العالم الروحي للإنسان والارتقاء بوعيه. ولكن المشكلة بدأت حين أخذت السلطة السياسية باستغلاله لفرض نفوذها والسيطرة على الآخر بعد أن انتقلت من محاربته إلى اعتماده وذلك حين أدركت أنها لا تستطيع منعه عن الناس المتعطشين دوما لإرواء روحهم. فاتخذته ذريعة للحروب ووسيلة لدوام سيطرة الوالي أو الإمبراطور كونه يستمد سلطته من الرب في الأعالي ولدوام هذه السيطرة تمسكت السلطة السياسية بالدين كمعبر لدوامها وأصبح للدين وظيفة سياسية بجانب الروحية وأصبح له الوجه الخفي (الحرب، القسوة، العنف، التكفير والتعصب). وهكذا يمكن لأكثر الديانات تسامحا وطيبة وجمالا (المسيحية) أن تمارس باسمها أكثر الممارسات دموية حين يمسك زمامها بعض المتعصبين ويسعون للسيطرة بالقوة على الآخر وإحلالها كدين رسمي في الإمبراطورية الرومانية والممالك التابعة لها وهذا ليس بجديد فنحن نعرف العصور الوسطى في أوروبا (محاكم التفتيش) والقمع الذي مورس باسم الدين وأشرف عليه كهنة الكنيسة في تلك الفترة خوفا من فقدان امتيازاتهم وللدفاع عن التركيبة الاقتصادية السياسية القائمة كونها الحامي لهم. ولكن الجديد هو عرض الفترة الانتقالية من الوثنية إلى المسيحية في المنطقة العربية والتي ظلت مجهولة زمنا طويلاً. وقد أظهر زيدان تلك الفترة ملقيا الضوء على الممارسات السلبية مرورا بالخلاف اللاهوتي بين الأريوسيين والنساطرة حول الطبيعة المادية أو الروحية للمسيح والذي عرض وأسس لاتجاهين في الدين ككل. يقول هيبا الراهب البسيط في مقارنة تدور في داخله: نظرت إلى الثوب الممزق في تمثال يسوع ثم إلى الرداء الموشى للأسقف! ملابس يسوع أسمال بالية ممزقة عن صدره ومعظم أعضائه وملابس الأسقف محلاة بخيوط ذهبية تغطيه كله وبالكاد تظهر وجهه،يد يسوع فارغو من حطام دنيانا وفي يد الأسقف صولجان أظنه من شدة بريقه مصنوعا من الذهب الخالص، فوق رأس يسوع أشواك تاج الآلام وعلى رأس الأسقف تاج الأسقفية الذهبي البراق، بدا لي يسوع مستسلما وهو يقبل تضحيته بنفسه على صليب الفداء وبدا لي كيرلس مقبلا على الإمساك بأطراف السموات والأرض كما عرض التطور العلمي والعمراني والفلسفي في الوثنية وكيف حورب كل ذلك لأنه نتاج ديانات مختلفة بعنف وقسوة (طبعا من قبل تيار يقوده الأب الإسكندراني كيرلس والذي تمت في عهده أعمال عنف فظيعة حتى بحق آباء مسيحيين وصل لدرجة التقطيع بالسواطير لاختلاف بوجهات النظر رغم معارضة حاكم الإسكندرية له إلا أن سلطة روما كانت داعمة له.)، لقد أرادوا محوها تماما ونبذ آثارها المادية والفكرية. فعرض ما لاقاه أتباع بقايا الديانات البائدة من وحشية واضطهاد وقتل بدأا من تجويع رهبان ديانة قديمة وحصارهم في كهف مظلم ومن ثم قتل والد البطل هيبا إذ كان يقاسمهم صيده حيث وشت زوجته به فقتله أقاربها المسيحيين المتشددين بسكاكينهم الصدئة دون رحمة وأمام عيني ابنه الصغير (هيبا) الذي أصبح راهبا، لكن وحشية قتل أبيه لم يستطع نسيانها ولم يستطع التصالح مع هذا السلوك تجاه الآخر المختلف رغم تمسكه بدينه المسيحي. ومرورا بذكر مقتل هيباتيا الفيلسوفة والعالمة المصرية والذي تم بمنتهى الوحشية إذ اقتنصت من عربتها وهي ذاهبة لمحاضرتها الأسبوعية فربطت وضربت وسحلت بالشوارع ثم نزعوا لحمها عن عظمها بالأصداف وأحرقت بمنتهى القسوة والوحشية. وهيبا (الراهب بطل الرواية) أراد دراسة الطب وارتحل بحثا عن معلم ليتقن مهنة الطب ويعود فيعالج أبناء قريته ولكن الأب الإسكندراني طلب منه ترك علوم الطب القديم وعدم دراستها (رغم ما عرضه من تقدم الطب في تلك الفترة) بل أراد منه الاعتماد في مهنة الطب على التعاليم الروحية والتعلم فقط من المسيح فهو الشافي؟ فإن كان المسيح صاحب معجزات فكيف لطبيب بسيط شفاء المرضى وهل له تقليد المسيح بمعجزاته؟! وتعود بنا الذاكرة للمقارنة: مقتل هيباتيا موازيا لقطع الرؤوس كما حدث مع أطوار بهجت التي ذبحت وفصل رأسها بمنتهى القسوة لأنها صحفية؟! محاكم التفتيش التي سادت أوربا وكانت تعتبر الفلسفة كفر وترجمة الكتب واقتناءها سببا كافيا للحرق حتى لو كان الإنسان مسيحيا وتمسك بدينه؟! مع الذين يرفضون حضارة الغرب لأنها بنظرهم حضارة الكفار متناسين أنها حصيلة حضارة إنسانية وجهد للبشرية جمعاء؟! والذين هدموا المعابد القديمة والمسارح في الإسكندرية مع الذين هدموا التماثيل الضخمة البوذية في أفغانستان لأنها وثنية ودون النظر لأهميتها الفنية وكعمل فني يعكس حضارة معينة. أليسوا هم أنفسهم الذين يريدون لونا واحدا للحياة يغطي كل تنوع خلق الله وجماله لونا أسودا كالحا يقتل الحياة نفسها في داخل الإنسان؟
هذا التعصب قد يطول الدين نفسه فيبدأ بالانقسام على بعضه إلى جماعات مختلفة وهمّها الحقيقي يصبح إثبات امتلاكها للحقيقة بامتياز وسحب البساط من تحت الفرق الأخرى وهكذا يندرج ذلك على الخلافات الطائفية كلها وفي الأديان جميعها والتي كانت وراء حروب واضطهاد جماعات من قبل أخرى على مر العصور. فأين الطمأنينة التي بحث عنها الإنسان وأين الأمان؟! وعزازيل رواية: بحث عن إمكانية العيش المشترك بين الجميع وبعيدا عن الإلغاء وتلمس مواطن الجمال والإبداع في كل مرحلة تاريخية من تطور البشرية بما فيها الوثنية. هي دعوة للاستفادة من دروس التاريخ فالخاسر الوحيد هو الإنسان إذ يعود إلى أكثر العهود جهالة وظلامية وقسوة؟! والرواية إذ تعرض بعض الخلافات في صلب الفكر المسيحي كما أشرنا تخبرنا كيف جرت العادة لحسم هكذا خلافات بالاستعانة بالحاكم الروماني لحسم الصراع ومن جديد الالتجاء إلى عباءة الحاكم لفصل النزاع بين فريق وآخر والفائز حتما هو من يريده الحاكم ما يقود لمزيد من الإلغاء وتكفير الآخر. ورغم أنه ومنذ البداية قدم لنا الكاتب الرواية على أنها كتبت قبل قرون ووجدت في صندوق مدفون وكأنها تحفة أثرية إلا أنها أدبيا على مستوى عالي وجميل وساحر. هي صرخة الإنسان للحياة والعودة بالدين إلى جوهره في بعث الطمأنينة في داخله وليس الخوف والرعب من الخالق أو قسوة الآخر وبالتالي الرد بنفس القسوة كدفاع حتى تتوازى خطوط الدفاع والهجوم ويصبح الدين والاختلاف سببا لواقع رهيب نعيشه. وعزازيل (معنى كلمة عزازيل: الشيطان) الذي كان وراء كتابة الرواية كما يقول هيبا (هو الذي أمره بكتابة هواجسه واضطراباته) وهو الذي أوحى للكاتب أن روايته ستنال جائزة البوكر يظهر قابعا في ذاتنا (يبحث عنه هيبا فلا يجده ويدور حوله ليجده صوتا صارخا في داخله يحثه على البحث عن الحقيقة في غمرة الصراعات السائدة ومواجهة هواجسه ومخاوفه ورغباته المكبوتة) هو صوت المختلف حقا المحرض هنا للبحث عن أجوبة لأسئلة شتى إنه التناقض الذي يقض مضجعنا ويدفعنا دوما للبحث عن الحقيقة، فيهجر الراهب حياة الرهبنة القاسية والتي تحرمه حبه الوحيد (مارتا) ليعيش حرا فلماذا ربط الدين بالقسوة والموت بدأً من الرهبنة التي تحرم الإنسان متعة الحياة التي وهبها الله للإنسان ليعيشها بكل غناها وجمالها. أي حياة وهو يشتهي ما لا يمكنه الحصول عليه وهو يغالب حبه وشهوته وتعلقه بالحياة التي وهبها الله له إذ يسجن نفسه في دير الرهبان. رواية أحداثها في القرن الرابع الميلادي ولكنها أكثر معاصرة وحياة الآن وفي هذا الزمن بالتحديد سواء أعجبت البعض أم شنوا هجوما لا يستند إلا على فهم قاصر ينطلق من أكثر الزوايا تعصبا.
وداد سلوم، (الأصولية نهج في التفكير: عزازيل رواية تبحث في التاريخ) خاص: نساء سورية