قصّة غير تقليديّة من وحي ال-8 من آذار يوم المرأة!
صديقتي عنيدة كالبغال، يستفزك عنادها أحيانا ويروقك أحايين، والعنيد بالطبعيرى كلَّ من حوله كذلك، ولذا لم انج أنا من اتهامها لي بالعناد بمجرّد أن لا أوافقها أي قول. بالمناسبة هي صديقة بالمعنى العربيّ للصداقة وليس بالمعنى المتداولِترجمة عن اللغات الأجنبيّة، مع أن هذه الصداقة عندناهي فقط في الكتب ويندر أن تخرج من سجنها الكتابيّ، وإن خرجت لا يهدأ بال السجانين دأبا لأعادتها إلى ما وراء القضبان،فالمرأة عندنا تصلح لكل شيء فيه تكريس لعلويّة الرجل، والصداقة فيها ندّية والرجال عندنا لا يحبّون النديّة، وبالذات مع امرأة.
أنا قرّرت أن أصادق امرأة وسأقصُّ لكم جانبا من قصّتي وإياها وأجري على الله. صادقتها رغم أني بعدُ لم انس لها جريمتَها في حقّي بإطعامي التفاحة، وما زاليدغدغ أذنيّما درجتُ على سماعه من أن: "ما آيس الشيطان من شيء إلا أتاه من النساء" و-"ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما".
والحق أقول أني لم استطع أن أتحرر كليّة من ذلك ومن علويتي في التعامل مع صديقتي، لا عقلانيّا ولا غريزيّا، وهي كذلك لم تستطع أن تتحرر من دونيّتها كليّة في التعامل معي لا عقلانيّا ولا غريزيّا، وها أنا اعترف على الملأ أني يا ما اشتهيتها في لحظات غريزيّة، ومن الصعب أن أعرف إن كانت هي الأخرى اشتهتني في لحظات كذلك،فطبعا الصداقة والاشتهاء لا يلتقيان وإن التقيا وصار الاشتهاء فعلا،تقمّصت الصداقة شيئا آخر ليس بالضرورة أن يقل عنها قيمةً إن تعدّى الاشتهاء.
ولكن يبدو أن رواسبَنا متجذّرة فينا في وعينا وفي لا وعينا لا تكفينا شرّها، وفي معركتنا العقلانيّة معها ليست الغلبةُ دائما من نصيب عقلانيّتنا، وللغرائزيّة فينا صولات وجولات تفسد علينا الكثير، ولكن في حالتي وصديقتي ما زالت صداقتنا قائمة وفيها الكثير من الصُّحبة المتواترة، ويبدو أننا نجحنا نجاحا باهرا سهلا في صدّ رواسبنا وغرائزيّتنا، وصعبا في صدّ رواسبَ غيرنا.
في صديقتي من السلوك الإنساني عدا عنادِها، الكثيرُ الذي يستفز دماغك تفكيرا،فهي مثلا ثائرةٌ على كلّ ما هو متعارفٍ عليه،تحسبها أحيانا لا تعير التقاليد ولا العادات وزنا، تقول وتسلك نقيضَها لا بل تكفر بها لدرجة ضاع في قولها وسلوكها وكفرها "الصالح في عزا الطالح"، وكأن لها عندها ثأرا متأصلا لا يوفيها حقَّها انتقاما إلا مسخُها إياها مسخا مبرما.
لم يقف الأمر عندها عند التقاليد والعادات بل تعداه إلى كل موروثنا الحضاريّ تاريخا وثقافة على كلّ أنواعها وأصنافها، ولكن المشكلة عند صديقتي كانت أن أدواتِها في المسخ استوردتها عبر البحار ودون تأشيرة.
لا أعرف لماذا أنا على قناعة أن صديقتي تقول ما لا تؤمن، ولا أعرف لماذا باءت كل محاولاتي سبرَ غور هذا الموقف هباء، وأسأت الظنَّ لدرجة أني اعتقدت أن موقفَها هذا نابع فقط من معارضة لموقفي أنا، فهنالك من الناس من هذا الصنف الكثير، ولم تبخلْ أمثالُنا فيهم فقيل فيهم في أمثالنا الشعبيّة الكثير، وفي سياقنا "مثل بعْر الجْمال ما ييجي إلا بالعرض"، ويبدو أن صديقتي من أولئك وال-"يبدو" هذه، لأني حقّا لم أرسُ بعدُ على برّ.
تدّعي صديقتي أن عاداتِنا وتقاليدَنا بالية، ولأنها في نظرها مولودة شرعيّة لموروثنا، فالمشكلةُ في موروثنا ولذا يجب العزوفُ عنه قولا وفعلا، لا بل راحت أبعدَ من ذلك وتدّعي أن لا موروثَ لنا، وكل ما عندنا نسخٌ لما كان قبلنا لم نرقّ إلى أن نضيف عليه شيئا، ولذا انهار في أول مواجهة له مع الموروثات الأخرى، وانطلق أصحابُها وتخلّفنا نحن.
تطلّب الأمر منّي جهدا شبهَ خارق حتّى فهمت أن موقفَها هذا فعلا نابع من كم هائل من النقمة على من يحمل هذا الموروثَ وليس على الموروث، وقد عانت من حَمَلتِه طفلة وفتاة ويافعة وامرأة، ولكن فهمي هذا كان ذاتيّا فهي ظلّت على موقفها محمّلة الموروثَجريرةَ الورثاء بإصرار، وعلى طريقة ذاك الذي اختلف وصديقُة على ما يريا عن بعد، فقال صديقه أن ذاك نسرا وقال هو أنه عنزة، اقتربا فطار الجسمُ ومع هذا أصرّ ذاك أن ما كان هو "عنزة ولو طار"، ألم أقل عن صديقتي أنها عنيدة كالبغال وكبعر الجمال؟!.
طبعا لم تكن صديقتي بنظريتها هذه خاويةَ الوفاض من البيّنات، فكانت إذا ما أحست أني أغلبها بمنطقي تستلّ من جعبتها سلاحا ماضيا فتفاجئك ساخرة:
ألم يقولوا في الموروث "صاحبك!":
"آمنكم اللهُ عارَها، وكفاكم مؤونتَها، وصاهرتم قبرَها".
ألم يقولوا:
لكلّ أبي بنت يُرجى بقاؤها ..... ثلاثةُ أصهار إذا ذُكر الصهرُ
فبيت يغطيها وبعل يصونها .... وقبر يواريها وخيرُهم القبرُ
إني وإن سيق إلي المهر .... ألفا وعبدان وذوعشرِ...أحَبُّ أصهاري إلي القبرُ
لم يكن وِفاضي أنا الآخر بخال من سلاح أحدَّ مما تستل صديقتي، لا في هذا ولا في غيره، ولكنها كانت وإن انثلم سلاحها تبقى على حربها ودون هوادة، فاتهمتها بموقف شخصيّ مسبق ضدَّ كلِّ ما هو شرقيّ، وكالت لي أشدّ الاتهام بموقف مشابه ضدّ كل ما هو غربيّ، رغم محاولاتي "الإستقتاليّة" أن أكون موضوعيّا في مقارباتي.
فمن صفاتها كان أن لا تدافعُ عن موقفها أو تناقشُه من داخله، وإنما تردّ باتهام في الكثير من الأحيان لا يمتّ للموضوع بصلة، خصوصا إذا شعرت بضعف حجتها أو أُفحمت.
كانت صديقتي "تؤلّهُ" كلَّ ما هو غربيّ، سياسيا واجتماعيّا وحضاريّا وثقافيّا بكل أشكاله، فالأدب الغربيّ هو الأدب والموسيقى الغربيّة هي الموسيقى والفكر الغربيّ هو الفكر واللبس الغربيّ هو اللبس والحياة الاجتماعيّة الغربيّة هي الحياه، وأبقتنا وهي منّا عُراة إلا مما كسانا به الله أو الطبيعة يوم أوجدانا.
بالمناسبة صديقتي ليست فريدة في هذا، ف-"الغربنة" طغت وطاغية كثيرا على قطاعات كثيرة منّا، ولا شكّ أن بعضَها قصور وبعضَها الآخرَ "محالاةٌ"، وفي الكثير من الأحيان دون حتى فهم ولا إدراك، لدرجة وكأن الأمر صار بمجرد أن تسمع مثلا الأغاني الغربيّة وفقط، فهذا من علامات التقدّم، وفي هذا كان لي ولصديقتي جولاتٌ وصولات لم تنته إلى حسم، وما كانت تتوقف أحيانا إلا بعد أن تعلو أصواتُنا متداخلةً في معركة حامية الوطيس لا تخلو من إصابات لئيمة أليمة وفي الجانبين.
لا أنكر أني كنت أحيانا في نقاشي خبيثا "ضاربا من تحت الزنار" لأني فعلا لم أومنْ أن ما تقول هو حقيقةَ ما تؤمن، وقد واتتني فرصٌ استغللتها أو استثمرتها، حسب السياق، على أحسن ما يكون لم أنج بعدها من وجبة ساخنة طالت قعرَ قبر أجدادي بدء بقصيّ بن كلاب.
في جولة ليست ببعيدة، واتتني فرصةٌكنت يجب ألا أفوتَها مهما كان.كانالبحر يعاني من جزر، لم ألاحظه إلا بعد أن أخذ نقاشُنا استراحة محارب طويلة. رنّ "موبايل" صديقتي وكان رنينُه مقطعا من المقطوعة المشهورة المعروفة بال- "كارمن"، لم تجب صديقتي وراحت تهزّ رأسَها تماهيا مع المقطوعة، تظاهرا حسب قناعتي رغم أن المقطوعةَ فعلا رائعة، ولسانُ حالها يقول كما قالت لي أكثر مرّة مستفزّة: "أين الموسيقى العربيّة من هذه ؟!".
- ما هي الكلمات التي ترافقالمقطوعة؟!
يبدو أن صديقتي تفاجأت من السؤال ليس فقط لأنها وكما توقعتُ لا تعرف، كما لا يعرف الكثيرون كلمات الأغنيات التي يتمايلون عليه "طربا"، وإنما رأت أني ضربتُها وفي الصميم، ولكنها ليست من الذين تفوتهم الحجّة، فسارعت:
- في الموسيقى لا تهمّ الكلمات !
ورغم أن في هذا معها بعضُ حقّ، ولكن وكمن "لقطتُها" رحت أضيق الخناق عليها أكثر فأكثر، وكمن علقتْ في عليقة باءت كل محاولاتها ومجهوداتها للخروج من الأزمة هباء، وأحسست أنا بانتصار عارم رحت استثمره حتّى النهاية، ورحت أشرح لها وبإسهاب عن ال- "كارمِن" وهي صامتةٌ ذاهلة، وأنا مسهبٌ في كلامي وهي تدأب ألا تقع نظراتُها على وجهي أو شفاهي، والحق أقول كنت أشعر بشعور طاغ من التشفي، ورحت أنغّم مخارجَ كلامي:
" أو- فورتونا قصيدةٌ من القرون الوسطى نظمت في القرن الثالث عشر الميلادي كجزء من المجموعة المعروفة ك- كارمن بورانا. إنها شكوى من المصير وعلى فورتونا الإلهة الرومانية إلهة تجسيد الحظ..."
حانت من صديقتي التفاتةٌ لم افقهْ كنهَها حولتْها سريعا في اتجاه الأفق، وتابعت أنا:
وفي العام 1935-1936 "أو – فورتونا" لُحّنت على يد الملحن الألماني كارل أورف... وتابعتُ معلوماتي إلى أن وصلت إلى مطلع القصيدة وكنت أحفظ منها المطلع فاعتمدت أن ألقيه إلقاء: مثل القمر أنت متغيّرة...أبدا تتعاظمين وتتراجعين... الحياة تقسو وتلين... وكأن نزوة تأخذها... تذيب الفقر والقوة مثل الجليد...
حقيقة لم أكن أذكر أكثر من هذا فتوقفت. بادرتني صديقتي:
- والتتمّة ؟
قلت وقد خلتني وإكليلا من الغار على جبهتي:
- عودي إلى نفسك !
قلت لكم أن صديقتي عنيدة كالبغال، لا؟
ضيّعت عليّ الإكليلَ بعد أن خلتها ستنقلب الآن شرّ منقلب، وها أنا أقول لكم الآن:
- البغال مع صديقتي بألف خير ولكنها ستبقى صديقتي، وليس لأن في بعض ما تقول، حقّا !
سعيد نفاع أوائل آذار 2014 Sa.naffaa@gmail.com