من المؤكد أن أكثرية المجتمع الإسرائيلي ستنسى في القريب العاجل الضجيج الذي رافق قرار شرطة إسرائيل تقديم أربع لوائح اتهام بحق من كان قائدًا عامًا لأركان جيش الاحتلال الإسرائيلي "جابي أشكنازي"، وبحق ثلاثة ضبّاط كبار تبوّأوا مناصب حسّاسة، وعملوا معه في مواقع متقدمة في وزارة الجيش الاسرائيلية. هنالك أسباب كثيرة تجعلني متأكدًا من صحة هذا التنبؤ الحزين، وأهمّها يتعلق بطبيعة ما نُـمي وأصبح قيمًا تضبط نبض ذلك المجتمع، وتؤطر سلوك أفراده.
يشار إلى أن تاريخ هذه الفضيحة يعود إلى نيسان عام 2010 -عندما أعلن وزير الجيش إيهود براك أنّه لن يجدد ولاية عمل جابي أشكنازي قائدًا عامًا لإركان الجيش ، وأطلق بذلك عمليًّا الشارة لبدء سباق الجنرالات نحو أهم منصب مرغوب في تاريخ إسرائيل، وهو حلم كل صهيوني يحلم بالمجد وبغار "إسبارطة" الحديثة.
بدأت فعلًا حرب الجنرالات التي كشفت عن وجود جو مشبع بالكراهية والعداوات الشخصية بين إيهود براك وجابي اشكنازي من جهة، وعن وجود معسكرات وتحالفات تتآمر على بعضها داخل وزارة الجيش، وهو المكان الذي كان جميع الإسرائيليين يرون أنه هيكلهم الموثوق وحصنهم المنزَّه عن كل عيب وحاميهم المطهَّر من كل خطيئة،وعلة حتى لو تفشت داخل المجتمع المدني الإسرائيلي. ففي إحدى نشرات الأخبار المركزية في السادس من آب من ذلك العام كشف صحفي مرموق وجود وثيقة حررت، ووضعت لتنشر بهدف الترويج لأفضلية الجنرال "جلنط"، وكونه الأنسب لمنصب قائد الأركان، وتطعن بذات الوقت، بغابي أشكنازي وغيره من المتنافسين على ذلك المنصب. لقد تعمّد كاتب الوثيقة التأثير، من خلالها، على أصحاب القرار والرأي ببث حقائق ومعطيات مغرضة وهادفة.
ادُّعِي أن الوثيقة مزيّفة، وقام كل طرف بإلقاء تهمة تزييفها على غريمه، مما استدعى تدخل جهات قانونية متعددة لتشرع بإجراء تحقيقات كشفت، بشكل أوّلي، عن وجود خروقات خطيرة وعن تفشي مظاهر الفساد الإداري واستيطانه في أروقة قيادات الجيش، ممّا أوجب نقل الملف إلى الشرطة لتبدأ تحقيقها مع جميع من تورّط في علاقة مع هذه الوثيقة، التي غدت تعرف باسم وثيقة "هرباز" وذلك على اسم الضابط الذي قام بكتابتها وتسليمها.
بعد رحلة طويلة، نشرت الشرطة، قبل أيام، نتائج تحقيقاتها، وفيها توصي بتقديم لوائح اتهام بحق جابي اشكنازي، الذي كان قائدًا عامًا لأركان الجيش، وتتهمه بخيانة الأمانة العامة، وتسريب خبر لجهة غير مخولة، وتتهم مساعده الخاص "ايريز فاينر"، بخيانة الأمانة، وتشويش إجراءات قضائية وبتهم أخرى. أمّا من كان ناطقًا باسم الجيش "آفي بنياهو" فمتهم بخيانة الأمانة وإتلاف بيّنة، والتشويش على اجراءات قضائية، وتعريض أمن الدولة للخطر. أماالمدعي العسكري العام "افيحاي مندلبلاط" فتوصي الشرطة باتهامه بخيانة الأمانة وتشويش إجراءات قضائية، مع العلم أن هذا الأخير يشغل اليوم منصب سكرتير الحكومة، وهذا يعتبر منصبًا حساسًا للغاية.
في الواقع، شهدت السنوات الماضية ارتفاعًا حادًا في عدد القضايا التي حققت فيها الشرطة مع أعداد من المسؤولين الذين قادوا وسادوا في كثير من أجهزة الحكم والسيادة. شملت قائمة من أدين من بين هؤلاء رؤساء دولة وحكومة ووزراء وقضاة وموظفين كبارًا شغلوا مناصب رفيعة، وكانوا جزءًا حيويًا من منظومة الحكم في الدولة. وبرز كذلك تنامي عدد القضايا التي تورّط بها ضبّاط يعملون في سلك الشرطة، وبعضهم في مواقع مؤثرة وحساسة.
إننا ازاء ظاهرة خطيرة متنامية تكشف عن ميلاد مجتمع تتآكل فيه كل القيم الإنسانية الأساسية، وتزاوج فيه عالم الجريمة والفساد مع عالم الحكم والسياسة.
في البدايات كانوا شركاء بالتساوي؛في الجناية والجنى، أمّا اليوم فسقطت جميع الأقنعة، وتصدّعت كل التروس. ما زرعوه من حقد بدائي في حواكير العرب يقطفونه علقمًا في شوارعهم. وما علّموه أبجديات في حلوق أجيال تعاقبت تردد "الموت للعرب" يلاقونه جداول دم على عتبات نواديهم والمدارس. وما سوّغوه من قوانين أحالت الحاضر غائبًا، والقاتل غالبًا صار شريعة غاب، وفيه إمّا أن تكون مفترسًا وتحيا، أو مرواغًا لتسلم، أو كذابًا وفاسدًا لتغنم.
أعي أن بعض ما يسود من ظواهر خطيرة وفساد تتشارك فيه إسرائيل والعديد من الدول التي تتشابه فيها معطيات الحكم وأسسه، ولكن لن يختلف اثنان على أن منظومتي الأمن والجيش في اسرائيل اعتبرتا دومًا قضيتين منيعتين محفوظتين بعيدتين عما قد يصدّع متانتهما ويضعف تماسكهما. المسألة لا تتعلق بوجود منافسات طبيعية فيهما، كما في كل مؤسسة وتنظيم، ولكن من يقرأ ما كشفت عنه الشرطة من تفاصيل في قضية"هرباز" يدرك إلى أي درك وصل هؤلاء الجنرالات القادة، وبأي مهنية أصبح الكذب والتآمر على التلفيق، قيمة سائدة مستساغة بينهم، تماماً كماهي قائمة وسائدة في مجتمع قبلها، ففيه ولدوا ونشأوا، ومنه أتوا جاهزين بشكل طبيعي إلى عالم القمع والتلفيق والكذب والافتراء.
إنهم صناعة إسرائيلية أصلية، وهذا ما يقلقني كمواطن وكعربي مارس أجداد هؤلاء على أجداده وآبائه طقوس القلع والقهر والنهر، حتى صارت عندنا أخبارها تمائم نورثها من جيل إلى جيل، وعندهم غابت هناك في الحولة وعلى هضاب بيت إيل وجريزيم.
قد يسعد البعض ويفرح لما يعتري الجيش والمؤسسة الأمنية الاسرائيلية من عطب وفساد، وقد يكون لهذه الغبطة مبررات وقسط من سداد دين وحلم أكبر من التشفي، ولكنني أتابع هذه السقطات ويزداد قلقي وهاجسي؛ فإن وصل السوس، كما نشاهد مؤخرًا، إلى لب الخشبة وقلبها أتساءل عن حال باقي أجزائها وما وصلت اليه ولذا أرى، أنه علينا، نحن العرب، أن نقلق ونستنفر أكثر، لأن مثل هؤلاء يقررون في شؤون السلم والحرب، ومن بحلمهم المخدوش والمسلوب يعيش، ومن بنيران كذبهم قد يموت. فبعض من الحكمة قد تفيد مع الفرح.