هنالك صراع بين التيار الديني والتيار العلماني على الهيمنة السياسية وهنالك غياب للثوابت الوطنية والشعور بالانتماء إلى الشعب الواحد وهذان سببان كافيان للتقطيب الحاصل في مجتمعنا
إن وصفَ ما كتبهُ جواد بولس في مقالته بعنوان "الناصرة أخت لبيت لحم" بأنه "كبوة" بمعنى "زلّة" قد يأخذنا إلى منحى آخر غير ذلك الذي وددتُ التطرق إليه، لكن بما أننا في صدد "جواد" الاسم والمُسمّى، فكان استحضار هذا المثل العربي أمرا واجبًا ولو من باب التنميق الكلامي واللعب بالألفاظ. أنا لا أعتبر ما كتبه جواد زلّة لسان، وإنما صرخة استغاثة، تعبّر عن رأي المستغيث أولا، ومن بعدها قد تعكس حالة قلق تعيشها الأقلية المسيحية في هذه البلاد. إن الهجوم العنيف الذي قامت به بعض الأوساط على ما قاله جواد يدل على انعدام لغة حوار ومناقشة وتقبل الآخر، وبعضه يهدف الى الصيد في المياه العكرة والى القذع والتشهير واغتنام الفرصة للنيل من القوى الوطنية الفاعلة على الساحة في الناصرة.
من أجل منع الالتباس وجدت من واجبي ان أدلي لكم بما كتبه جواد بالحرف الواحد، وهنا أعتذر منكم ومن الكاتب لو كان بالاقتباس نوع من الانتقائية المجحفة بحق الصورة الكاملة التي حاول ايصالها. بعد ان استذكر جواد حالة "الانقراض" التي تعيشها الأقلية المسيحية وقيام بعض منها بمهاجرة البلاد استطرد قائلا: "...فما دامت فلسطين كلها تعاني حالة اجتماعية واحدة، وتعيش فضاءً ثقافيًا متناغمًا، فإن على قادة الجماهير العربية في داخل إسرائيل التكامل مع ما قامت به قيادات فلسطين، والتنسيق للعمل على وضع مشروع وطني مشترك، مبتدؤه دراسة مقترح يقضي بأن يُحفظ منصب رئيس بلدية الناصرة لمسيحي أو مسيحية من أبنائها. لا يعنيني في هذا الشأن المكسب الطائفي الكنسي، بل ما سيحقّقه هذا القرار من مردود ومعان وما سترمز إليه هذه الخطوة. فما دامت فلسطين، بكل دياناتها وأطيافها، قد قبلت ما استحدثته قياداتها منذ قريب العقدين في مناطق ٦٧ فلماذا لا يصح ذلك على الناصرة، وهي بلد البشارة والمسيح عليه السلام ومريم التي طهّرها الله واصطفاها على نساء العالمين..".
انا لا أشك بتاتا بقدرة جواد على نقل المشهد الذي وقف أمامه من مكانه وحسب رأيه ومن الجائز انه يعكس مشاعر شريحة لا بأس بها من المسيحيين التي ينتابها شعور من القلق والخشية من تعاظم قوة ما يسمونه "الإسلام السياسي" في العالم والمنطقة، ولكن ما أشك به هو نجاعة الحل الذي يطرحه. هل تخصيص مقعد الرئاسة في بعض السلطات المحلية، التي تعاني من النقص في الموارد والغارقة بالديون، للطائفة المسيحية هو الذي سيضمن الحريات والشعور بالأمان والعدل والمساواة والتآخي بين الطوائف؟ وماذا عن المذاهب الأخرى القائمة الأرثوذكسية والكاثوليكية واللاتينية والمارونية وهل بالإمكان ان نكون منصفين معها كلها عن طريق العملية الانتخابية؟ هل تخصيص المناصب في لبنان للمسيحيين والمسلمين والدروز قهر العنصرية ودحر العنصريين او انه ادى الى مأسستها وتحويلها الى ظاهرة مقبولة، وكلنا نعرف انها قنبلة موقوتة قد تنفجر في أية لحظة.
قد تكون عملية "التخصيص" هي أحد الحلول المطروحة ولكن من الواجب علينا أن نناقش بشكل علمي وحضاري وموضوعي حلولًا أخرى على الطاولة لنتأكد أن الجهد الذي نبذله يساهم فعلا في حل للمشكلة. مع أني شخصيا أميل الى التفكير بأن المشكلة ليست بالحدّة التي يستشفها القارئ من مقالة جواد بولس. قد تكون عملية المقارنة بين حالتين او حدثين او موقعين أداةً غير موفقة للاستنتاج نظرا لوجود متغيرات أخرى قد تكون غابت عن بال طارحها. يحاول جواد ان يقنعنا أن الحل الذي طُرح في حالة "أ" هو الحل الصحيح ويجب ان نتبناه في حالة "ب"، فحسب رأيه "بيت لحم" و"الناصرة" هما صورتان طبق الأصل وما صلُح ونفع في "بيت لحم" سيصلح وسينفع في الناصرة.
طبعا هذا غير دقيق، أولا بيت لحم ترزح تحت الاحتلال الاسرائيلي الذي ينتهك بشكل سافر حرمة الانسان ويحدد حريته بالتنقل، وهذان سببان كافيان لأن تقوم بعض الشرائح المعدودة على الطبقات العليا في المجتمع الفلسطيني ومن ضمنها مجموعات مسيحية ان تغادر البلاد بحثا عن الحريات والعيش الكريم. لم أسمع عن بحث اثبت به أن هجرة المسيحيين من فلسطين جاءت خشية من "الجرف الإسلامي". والمُراقب لحال المسيحيين في إسرائيل لا يجد ان غبنا قد لحق بهم او انهم يعيشون على هامش الحياة. هنالك الكثير من المسيحيين الذين يتبوأون، وبجدارة، مراتب سياسية واجتماعية واقتصادية وإعلامية هامة فهنالك أعضاء الكنيست والقضاة ورؤساء لجان التنظيم ومدراء البنوك ومدراء المدارس (في بلدات ذات أغلبية مسلمة) ورؤساء التحرير ومدراء عامون للإذاعة والتلفزيون وهنالك أيضًا رجال أعمال ناجحون يساهمون في تطوير الاقتصاد المحلي. والاحصائيات تدل على أن المسيحيين ينعمون بثقافة وبدخل يفوق الأكثرية الإسلامية. إذا أين الحاجة هنا بتخصيص مراتب لمسيحيين اذا كانوا قادرين ان يصلوا الى هذه المراتب المرموقة بمؤهلاتهم وعلاقاتهم الشخصية؟
لا شك ان المقارنة بين حالة المسيحيين في بيت لحم ورام الله وحالتهم داخل البلاد التي قام بها جواد تستوجب التفكير الجاد لكن هنالك حاجة لإثبات صحتها وصحة مصدرها. انا طبعا لا أقلل من شأن الصرخة التي أطلقها جواد التي كان يمكن ان يطلقها "يوسف" او "ابراهيم"، أما الرد عليها عن طريق التشكيك به وبمآربه غير مجدٍ ويزيح الضوء عن القضية الأساسية.
حسب رأيي هنالك صراع بين التيار الديني والتيار العلماني على الهيمنة السياسية وهنالك غياب للثوابت الوطنية والشعور بالانتماء الى الشعب الواحد وهذان سببان كافيان للتقطيب الحاصل في مجتمعنا. ليت باحث من باحثينا يسارع بإدراج هذا الموضوع بأولوياته لكي نصل الى الحقيقة وساعتها سنجلس لنتحاور ونتناقش بشكل مثرٍ لما به الخير للجميع. يظل أيضًا أمر يدعو إلى التساؤل وهو التوقيت غير المناسب الذي اختاره جواد لطرح القضية؟ هل استفادت القوى الوطنية التي ينتمي إليها جواد من هذا الطرح؟!