من الملاحظ أن الجدل الدائر حول قضية إضرابات الأسرى الفلسطينيين الفردية لم يستقطب اهتمامًا واسعًا، وبقي الحديث حوله محصورًا في بعض الحلقات الضيّقة التي تهتم بشؤون الحركة الأسيرة الفلسطينية في سجون الاحتلال الإسرائيلي. ولن أبالغ إذا قلت أن هذه المسألة لا تشغل حيّزًا وافيًا في حياة الأسرى أنفسهم، ولا تشكّل هاجسًا يعطّل عليهم رتابة يومهم أو انتظام شريط أحلامهم المعلّقة.
تاريخ الحركة الأسيرة الفلسطينية مليء بحالات من الأسرى الذين خاضوا إضرابات طويلة عن الطعام وبعض هذه التجارب انتهى بسقوط شهداء كما في حالة الأسيرين راسم حلاوة وعلي الجعفري، اللذين استشهدا قبل أكثر من ثلاثة عقود.
أعود اليوم وأتناول هذه المسألة لأنني بدأت ألمس أنها أصبحت، في السنوات الأخيرة، تشكّل مؤشرًا يكشف العديد من عوارض الوهن الذي تعاني منه حياة الأسرى في داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي، ففي السنوات الثلاثة الماضية، لاحظنا تحوّل بعض الاضرابات الفردية عن الطعام، إلى نقاط خلافية بين الفصائل، أو حتى مشاعل لمنازعات في داخل الفصيل ذاته، هذا بدل أن تكون خطوة ذلك الأسير المضرب نداءً يستقطب همم كل الحركة الأسيرة وهي بوقفتها الموحدة، تتحوّل إلى مهماز يستنفر الشارع الفلسطيني على اختلاف مؤسساته وتنظيماته ومنظماته.
كما في الماضي أود أن أؤكد اليوم، أن لكل أسير حقًا مكفولًا بإعلان الإضراب عن الطعام، كوسيلة نضال مشروعة ومعترف بها، يسلكها، إذا التأمت الظروف، من أجل أهداف أو مطالب يعلنها ويسعى من خلال جوعه إلى تحقيقها. كما وأؤكد أن رهانات الاحتلال في الماضي فشلت، وسعيه في هذه الأيام لنزع الشرعية عن حق أسرى الحرية الفلسطينية سيفشل هو أيضًا، كما وستخفق محاولاته بزرع بذور الخلاف في داخل الحصن، حتى وإن بدت، للبعض، محاولات اختراق مسؤولي مصلحة سجون الاحتلال لبعض الجيوب في صفوف الأسرى، واعدة، وقد سجّلت نقاطًا في شباك الحركة الممزقة، فأنا مؤمن أن العنجهيةالاسرائيلية المتفاقمة والقمع الإسرائيلي، الذي لن يتوقف، كفيلان بإبقاء فتيل العزة مشتعلًا، حتى في أحلك ساعات الليل الفلسطيني، لأن تاريخ هذه الحركة وتجربتها علّما من نسي أو تغاضى أو انبطح، أن الغلبة دائمًا للعزيمة وللإرادات الحرّة، وبئس المذلة.
يبرر المعارضون موقفهم ضد الاضرابات الفردية بكونها، على الأغلب، نابعة عن قرارات عشوائية، وبما تسببه هذه العشوائية من إرباكات تشوّش أحيانًا "الراحة" القائمة في رتابة حياة مجتمعات صغيرة مغلقة تعيش وفق قوالب سلوكية صارمة وإيقاعات روتينية بطيئة. هذا علاوة على نشوء ظاهرة أفرزتها تجربة السنوات الماضية، خاصة في الاضرابات التي أعلنها مَن عُدّوا مِن أسرى حركة الجهاد الاسلامية، قد نسمّيها "معدة تقفو معدة"، فما أن ينتهي إضراب أحدهم ليعلن آخر إضرابه، تاركين حركة أسيرة تتابع ما يجري وكأنها مجموعة من المتفرجين وعرضةً للانتقادات.
من جهة أخرى، لم يراع الأسير، بالعادة، قبل إعلانه الاضراب المفتوح عن الطعام، ظروف الشارع الفلسطيني أو ما يشغل بال الجماهير العريضة من قضايا عامة وأزمات سياسية وأوضاع اقتصادية ضاغطة قاسية، فقوبلت هذه الاضرابات، باستثناء حالات معدودة، بفتور واضح كان أثره مضاعفًا: إحباط لدى الأسير، وخلق صورة ضارة تعكس قصورًا شعبيًا بعيد التأثير وكثير الأوجه.
لا يمكن لعاقل أن يتنكر لضرورة سماع حجج من يعترض على تكريس نهج الاضرابات الفردية وابقائها على اعتباطيّتها من دون أن توضع في مساقات نضالية مدروسة ومتفق عليها من قبل أصحاب التجربة الغنيّة والرأي السديد، والمسؤولية الوطنية، ولكن للأسف، لم يشذ التعاطي الفلسطيني الوطني مع هذه القضية، على مأساويّتها، عن معالجة مثيلاتها من القضايا التي تواجهها الحركة الأسيرة، فباستثناء بعض اللقاءات الهامشية العابرة، لم نشهد حدوث أي عصف فكري وطني ملتزم ومسؤول، يأخذ بالتجربة هديًا ويخلص إلى نتائج مبنية على إفادة تراكمية واستلال العبر لتحسين الأداء ومضاعفة الربح وتفادي الخسائر، وحتى اليوم بقيت هذه المسألة عرضة للبكائيات الرومانسية من طرف، وللإغفال والتناسي أحيانًا، أو للمزايدة الفارغة من أطراف أخرى. بالمقابل تقوم إسرائيل بدراسة التجربة بتأن وتمحصّها بما يشبه العمليات المخبرية، وهي لذلك أحرزت تفوقًا ملموسًا في كثير من الحالات، لأنها نجحت بتطوير أدوات ناجعة لمواجهة الظاهرة، مكّنتها من تفكيك هذا اللغم بحنكة وبأقل الخسائر، مثلما حدث، على سبيل المثال، في قضية الأسير محمد علّان، والتي ما زالت أحداثها تتفاعل كما نشهد مؤخرًا.
من جهة أخرى، على المراقبين أن يتساءلوا عن أسباب بروز ظاهرة الإضراب الفردي عن الطعام في السنوات القليلة الماضية، (حتى إذا شمل عددًا ضئيلًا من الأسرى)، ويسألوا أكان هؤلاء الأسرى يلجأون إلى إضراب فردي لو وجدوا ضالّاتهم بنضالات جامعة وحّدت كلمة الحركة الأسيرة وموقفها النضالي في وجه هذه السياسة الإسرائيلية القامعة أو تلك؟!
القضية، برأيي، غير معقدة، وتحتاج إلى قليل من الصراحة والموضوعية، أو ربما في حالتنا الفلسطينية لبعض الجرأة، فإسرائيل باتت تعرف عن حالة الأسير الفلسطيني أكثر مما يتوقع القارئ، وضبّاط مصلحة السجون الاسرائيليون، وبعضهم عرب، تمكّنوا من ضبط الحالة الداخلية للأسرى بأشكال قوضت العديد من القوائم التي كان يقف عليها بنيان شيّده السابقون من طلائعي الصمود الذين ضحّوا بالأغلى ليضمنوا النصر للكرامة الفلسطينية على عنجهية السجان وقمعه.
نصحك من أسخطك بالحق! فالمأساة بدأت عندما تشتت صفوف الأسرى وانسحب كل فصيل منهم إلى حصنه وصومعته وصاروا أصواتًا شتى، وبعد أن كانوا، ذات يوم، زئير هزبر مزمجر وموجًا هادرًا، لم يعد يسمعهم اليوم بلد أو يسمع لهم قريب وولد، فأنا لا أعرف كم من القرّاء يعرف أنني أكتب مقالتي هذه في وقت يخوض فيه ستة أسرى فلسطينيين إضرابًا عن الطعام بدأه خمسة منهم في الرابع والعشرين من أب، واحد منهم، نضال أبو عكر، كان يعمل، قبل اعتقاله إداريًا، في الإعلام والصحافة، وعلى الرغم من ذلك وعلى الرغم مما وصلت إليه حالاتهم الصحية من خطر، لا يكاد يسمع عنهم البشر، وما تقدّمه لهم اليوم فلسطين، لا يتعدى بعض نشاطات يرصّها بعض المنتمين الأمناء على حمل شمعة حتى في وجه الريح، أو المدمنين على الوقوف على الرصيف ومع المقهورين.
وغشك من أرضاك بالباطل! فهل من تفسير منطقي لهذا العبث؟ أو تبرير وطني لهذه المأساة/الفضيحة؟ أم هو زمن سيقال فيه بأسى: هنيئًا لك يا سجّان!