نقرأ ونسمع آراء مختلفة في مسألة نسبة تصويت العرب في انتخابات الكنيست القادمة. لا أعتقد، كما كتبت في الماضي القريب، أنّنا سننجو من مضاعفات العنصرية المستفحلة في أوساط الأكثرية اليهودية عن طريق زيادة تمثيلنا كعرب في الدولة ببضعة نوّاب جدد، لا سيّما وأن بعض الأسماء التي كانت ستفوز هي من هواة لعبة الكراسي، وبعضها غير معروف على مستوى جماهيري ولا يشكّل قوة جذب لأصوات فقدت أوتارها "الدوزان". لن أكون متشائلًا وأنعي مع مَن نعى قيادات أحزابنا وحركاتنا السياسية، ولو من باب إيمان أن التشاؤل، في معظم الأحيان، هو عمليًا كسل العقل وتعطيل للتفكير. ولن أنضمَّ إلى من تمنّى أن يعاقِبَ المصوّتون قيادات العرب ليفهموهم كيف تُرفع القادة على الكتف، فلم أكن ولست ممّن أحبّوا شمشون ولا آمنوا به جبّارًا وقد كان عاشقًا "دليلًا" لا أكثر. بعيدًا عن الأكاديمية الحذرة، وبمباشرة واضحة سأكتب، وكي لا أفتح بابًا لشيطان يتربّص، ولا كوّة لهتَّافٍ محترف، أؤكد أن سياسات قادة إسرائيل، على مرّ العقود، وقمعهم وتآمرهم على حقوقنا ووجودنا كأصحاب حق، كانت وما زالت سببًا رئيسيًا لحالات الترهيب والترغيب والتفليس والتعمير والتيئيس والتنفيش والتحشيش والتطفيش، فمنذ أن صار "لأم ستيت شنبيت" تمنّينا لو لم تعرف العبرية لا شين ولا بيت! وبعد هذا الإعلان المدوي أكتب عن ما يهمّني، عن بيتي، خابة زيتي، مغرفتي، قنديلي وحاء الحق في حلقي. فنحن قومٌ يقتلنا التعميم ونغرق في "طشت". معظم من كتب تحدّث عن النواب العرب كرزمةٍ واحدة وعن الأحزاب كشلّة صوف. القضية ليست بمهنية مثلوبة وحسب، ولا بتماثل هذا التوصيف مع ما يقوله معظم ساسة إسرائيل في تعرّضهم التحريضي للعرب وقادتهم كخلية واحدة، بل بما يزرعه هذا الادّعاء من تصوّر خاطئ يؤدي بالمتلقي/الناخب إلى استنتاج سطحي بدائي مفاده: ما داموا سواسية في الفشل والكذب والأداء ليذهبوا إلى غابة المطر ونحن في خيمتنا وبين عشيرتنا وعلى رأس وظيفتنا. لسنا شركاءكم. قلنا ونكرر: في التعميم نقمة. بالمقابل لقد قلنا في التميّز نعمة. لسنوات ضاع قادة، تماهت الفوارق بين الأحزاب العربية والحركات الفاعلة فبرزت الحركة الإسلامية كطريق واضح المعالم ليّن الملامس، بينما تهافت الآخرون كسرب وراء "إخواننا العرب"، وعند البعض كان ذلك كتهافت الفلاسفة ومصالحهم، وعند الآخرين عن ضيق رؤيا وضعف نظر. كانت تلك الحقبة السورية ثم تلتها وما زالت الحقبة القطرية. لقد أعمت هذه الحقبة أعين المشاهدين وخلقت حقولًا مغناطيسية مزيّفة أدّت بكثيرين إلى تسخيف الروابط الحياتية بإسرائيل ومؤسساتها. إسرائيل شجّعت هذه النزعة من جهة واستثمرتها كوقود يشعل محركات التحريض على العرب. إسرائيل تعرف أنّ لا قيمة حقيقية لهذه النزعات، ولا رصيد لها، وهي بمثابة شيكات وهمية (باستثناء لبعض "القادة" الذين استفادوا وأقرباءهم)، وإسرائيل تعرف كذلك أن المواطن ينزع في مثل هذه الحالات إلى عكس ما يوحيه الشعار والحناجر، يسعى إلى ربط مصيره الفردي ومصلحته مباشرة مع الدولة ومن خلال علاقات غير صحية أحيانًا. الخاسر من هذه الحقبة كان بلا شك جماهيرنا العربية، كان قادة الجبهة الديمقراطية المسؤولين عن هذا التماهي لكنّهم – ولو بعد حين - عادوا وانتبهوا لهذا الخلل وأعادوا الفأس إلى أرضها فعاد للتميّز معنى ونعمة. لا سياسة من دون مداهنة ورياء وكذب. القضية تبقى بالنسبة والتناسب ومتى تصبح هذه عدوة للمصلحة العامة وخطرًا على مصير المجتمع. قادتنا امتهنوا، وبعضهم ما زال، مداهنة المتزمّتين الطائفيين الذين يدّعون ويعملون ويجاهرون بمواقفهم التي من شأنها أن تمزّق أنسجة مجتمعاتنا وتشظي لحمها ولحمتها. احترام الأديان واجب، واحترام المتديّنين الصادقين أوجب، شريطة أن يحترم هؤلاء من يختلف معهم. كل العرب كفرة، يقول العنصري اليهودي. وكل اليهود كفرة هو لسان العنصري العربي. قائد حق يصرخ بصوت واحد بوجه كليهما. عندما يغيب الموقف الصحيح باسم السياسة والديبلوماسية وصندوق الانتخابات. لن يسلم مجتمعنا، فهو كالجسد إمّا أن يكون نظيفًا سليمًا وإما أن يتساقط خليّة وراء خلية. الانتهازية رفيقة العمل السياسي، شريطة أن لا تكون هي الحرفة والسياسة مطيّتها. ما واكب عملية تركيب القوائم الحزبية كان غير مبرَّر بشروط المهنة. مناورات النائب طلب الصانع أساءت للناخبين، كذلك انضمام السيد محمد حسن كنعان للموحدة، يسيء للناخبين تهكم التجمعيين على "وطنية" السيد محمد حسن كنعان، فالناخب يستاء من أجواء السوق التي سادت ومن وطنية مضمونة دائمة ما دُمتَ معنا وإن رحلتَ فأنت مذمومٌ وساقط. غيض من فيض، عن هذه وعن أخرى سأتبع في مقالي القادم. كلّها ممارسات نحن العرب مسؤولون عن إنتاجها. كلٌها أدّت، وتؤدي تراكميًا، إلى شعور بالعدمية وانعدام الجدوى. فقدان الثقة والضياع، يحتقروننا فلماذا نحترمهم. هناك من يصنّع وهناك من يتربّص وينمّي ذلك الشعور ويدفع الناخبين الى أحضان الأسهل، إلى حضن الوعد الذي قد لا يفيد في الدنيا، ولكن لا يقلق ولا يذل. مجتمعنا مظلوم وفقير وكادح، مجتمعنا مريض فوصفوا له ما وصفوه عندما مرض صاحبنا أبو العلاء، فرّوجًا ليأكله ويبرأ فقال مخاطبًا الفرّوج، حكيمًا هازئا، "استضعفوكَ فوصفوك هلّا وصفوا شبل الأسد؟"، وأنشد: "تحطّمنا الأيام حتى كآنّنا...."... (يتبع)