حوار فلسفي مع الفيلسوف الألماني اكسيل هونيث
نور الدين علوش: في البداية، حدثنا عن وضعية المعهد؟ وما هو تشخيصكم لحالته؟ وهل النظرية النقدية في وضعية مريحة؟
اكسيل هونيث: المعهد يمكنه أن يمر بأحسن اللحظات. فما يلاحظ للوهلة الأولى أن النظرية النقدية اتخدت عدة أشكال وليس شكلاً واحدًا كما كانت عليه في بداية القرن العشرين. فاليوم ما يسمى بنقد المجتمع اتخذ أشكالاً مختلفة. هناك مقاربات نقدية جديدة يمثلها ميكاييل واشتر أو شارلز تايلور ومقاربات أخرى أكثر راديكالية تمثلها التيارات ما بعد البنيوية خصوصًا في فرنسا.
فالمقاربات النقدية كثيرة جدًا والنظرية النقدية لا تمثل إلا النزر اليسير. في وضعيتنا اليوم حيث تعيش الرأسمالية أزمة عميقة علينا أن نكون في المستوى فالشباب لا تهمه النظرية النقدية بقدر ما يهمه مقاربة جديدة لنقد المجتمع الرأسمالي. فالنظرية النقدية فقدت تأثيرها القوي على مستوى الطلبة وخاصة الشباب البعيد عن الأجواء الجامعية. هذا حاصل بسبب عدم تسييس الشباب وخاصة في ألمانيا. بالإضافة إلى أن النظرية النقدية غاب تاثيرها كذلك على الفضاء العمومي.
ن. ع.: إذًا، انطلاقًا من هذا التقليد النقدي واستلهامًا لأعمال هابرماس طورتم نظريتكم المسماة نظرية الصراع من أجل الاعتراف. هل هي من المقاربات النقدية الجديدة التي تحدثم عنها؟
ا. هـ: نعم فهي من المقاربات النقدية الجديدة. فأنا انطلق من فكرة الاهتمام بمبررات النقد العملي وأسبابه. حيث وجدتها في الشعور بالظلم والإهانة وعدم الاعتراف. هذه هي نقطة الانطلاق لا يجب أن نفكر في الاحتجاج أو في النقد العملي باعتبارها أسبابًا نفعية أو مادية بل بالرجوع إلى مصطلح الاعتراف و انعدام الاحترام.
بعد تمكني من ذلك رجعت إلى هيغل الذي ألهمني في صياغة أطروحتي. فهذه طريقة من الطرق للانخراط في التقليد النقدي مادام هيغل لعب دورًا كبيرًا فيه. لكن رجعت إلى هيغل الشاب حيث وجدت فكرة جيدة لديه مفادها أن المجتمعات تحافظ على استقرارها عن طريق صراعات مجموعاتها من أجل الاعتراف. فهذه الفكرة هي التي انطلقت منها لأطور أطروحتي حول الاعتراف، فجميع المجتمعات تتمحور حول دوائر الاعتراف التي بموجبها تسمح لأفرادها بالدخول في اعتراف متبادل.
هذا لا يعني أن هذا الاعتراف هو متماثل أو متساو. على سبيل المثال في مجتمعات العبودية ليس هناك اعتراف متماثل لكن آلية إدخال الأفراد تبقى في دائرة الاعتراف. أما في مجتمعاتنا الحديثة فيمكن الحديث عن ثلاث دوائر: أولاها دائرة الحب حديثة لا نجدها في المجتمعات القديمة لأنها مرتبطة بعدة إكراهات، أما الثانية تتمحور حول السوق حيث تتحرك آلية الاعتراف المتبادل – سأتحدث عن دائرة الاحترام القانوني حيث لا يشكل السوق سوى جزئه الصغير، فهذه الدائرة تتمحور حول القانون الحديث الذي أعطى للأفراد حقوقًا متساوية ومنح لهم الاستقلالية، فهذه الدائرة محط نزاع دائم بين من يملك تلك الحقوق ومن هو محروم منها؛ أما الدائرة الثالثة فهي مختلفة عن الدوائر الأخرى حيث تتمحور حول الاعتراف المتبادل بين الأفراد بالنظر إلى قدراتهم المحترمة. من هنا فإن أغلب النزاعات هي من طبيعة طلب الاعتراف.
ن. ع.: أشرتم سابقًا إلى عودتكم إلى هيغل والنظرية النقدية لكن بطريقة كلاسيكية، فأنتم تستعملون الفلسفة بالإضافة إلى العلوم الاجتماعية متأثرين بعالم الاجتماع هربرت ميد من أجل تطوير نظريتكم حول الاعتراف. كيف يمكن أن تشرح لنا هذا؟
ا. هـ: نعم، أنا استفيد من مختلف التوجهات والمقاربات النقدية. فهربرت ميد من أبرز المفكرين الأمريكيين وله فكرة جيدة مفادها أن لا يمكن أن نطور وعي الذات بدون الاعتراف بالآخر. هذا يعني أن في مرآة الآخر يمكن أن نطور وعينا ونحقق هويتنا. فالتقدم الإنساني مرتبط أشد الارتباط بأشكال الاعتراف المتبادل. فهربرت ميد تحدث عن مختلف الدوائر في مجتمعه الخاص، الشيء الذي جعله يميز بين تقدير الذات واحترامها، وهذا مهم بالنسبة لي. فالخلفية التي تحكم هذه الفكرة هي أن بدون أشكال الاعتراف بالذات هذه لن يتمكن أحد من الإسهام بطريقة حرة وفعالة في التكوين السياسي للمجتمع. من المهم تحقيق بعض الشروط وتحقيق أشكال الاعتراف المتبادل حتى يتمكن الناس من المساهمة في الفضاء العام بدون إكراه وبدون خوف. هذه جوهر الأطروحة التي أدافع عنها. وهي قريبة من فكرة ادورنو حيث يعتبر أن الحرية هي أن تحقق وجودك بدون قلق أمام الجمهور.
إنطلاقًا من هذه الفكرة أحاول أن أطور أطروحتي بالاعتماد على النظرية النقدية ومقاربات نقدية أخرى. تاركًا النموذج الهاربماسي الذي اقتصر نموذجه على شكل واحد من العلاقة: مستوى احترام الذات الذي يمكنه أن ينتج أشكالاً من التواصل، في حين أنني اعتبر أن هناك أشكالاً أخرى من الاعتراف حيث يمكن أن يشعر الافراد بحريتهم أمام الجمهور. فهابرماس أقصى الأشكال الأخرى للاعتراف.
ن. ع.: إذًا هونيث، هل المرجعية الماركسية حاضرة بقوة في أعمالكم؟
ا. هـ: سؤال مهم دائمًا يطرح علي. فالأمر الذي يجب أن يطرح عن أيِّ ماركس نتحدث؟ عند ماركس الشاب نجد الكثير من الأمور التي تذهب في إطار نظرية الاعتراف، فماركس قبل أن يطور نقده للاقتصاد السياسي، نجد عنده فكرة مهمة مفادها أن الشكل الوحيد للأنتاج الصحيح في المجتمعات الإنسانية سيكون نوعًا من التعاون في إطاره نعترف للآخر بمختلف تمظهراته، بمعنى آخر نأخذه في الحسبان باعتباره مستهلكًا ومتعاونًا. في كتاباته الأولى نجد مصطلح الاعتراف حاضرًا بقوة، وكيف أن حدسه حول الاعتراف المتبادل لعب دورًا كبيرًا في نقده للاقتصاد السياسي. هذا يلعب دورًا مهمًا، لكنه غير واضح. فالفكرة المحورية لديه تقول بأن أشكال التنظيم الاقتصادي السياسي هي التي تمنع من ظهور أشكال الاعتراف المتبادل. هذا النقد جاء متاخرًا. من هنا فماركس حاضر بشكل من الأشكال في أطروحتي. سبب آخر هو حدسه حول أن الراسمالية بدون ضوابط ستكبح جماح ظهور أشكال الاعتراف المتبادل. في هذا السياق هناك علاقة وإن لم تكن قوية بالمرجعية الماركسية في كتاباتي.
ن. ع.: هناك الكثير من الانتقادات الموجهة إليكم منها أن عملكم مرتبط في العمق بصعود سياسة الهوية، وأنكم تتناسون مسألة غعادة التوزيع. وهذا ما أدخلكم في نقاش وسجال مع الفيلسوفة الأمريكية نانسي فرايزر؟
ا. هـ: سؤال مهم. سيكون كارثيًا إذا تجاهل النقد الاجتماعي مسألة الموارد المادية وعدم التكافؤ في توزيع الخيرات المادية. هذا هو الوجه القبيح لمجتمعاتنا الحديثة، وتتفاقم الأمور أكثر. في ألمانيا مثلاً تتزايد الهوة بين الأغنياء والفقراء، كما أن الوضعية التي تعيشها الطبقات الشعبية متدهورة عما كانت عليه منذ عقدين. فلا بد من أخذ الأمر بجدية في كل نظرية نقدية. فطريقتي في مقاربة هذا الأمر تختلف عن المقاربات الأخرى التي تتمحور حول إعادة التوزيع، إذ أحاول أن أفهم ماذا تعني إعادة التوزيع. يعني بأن لنا معايير شرعية تسمح بإعادة التوزيع. بمعنى آخر أخذ الأموال من الأغنياء ودفعها للفقراء وإلى الطبقات المتوسطة. فالمشكلة لا تكمن هنا بل في ما هي المبادئ التي يمكن أن نرجع إليها في اقتراح أدوات، أو وسائل، إعادة التوزيع؟ وهذا أيضًا يندرج في بعض مبادئ الاعتراف الموجودة في المجتمعات الحديثة. فالطريقة التي يمكن أن ندافع بها عن إعادة التوزيع تمر بمرجعية دائرة الاحترام القانوني قائلين من أجل الحصول على حقوق لا بد من رصد بعض موارد مالية.
هذه هي الاستراتيجية للدفاع عن الحقوق الاجتماعية، وهي أساس مجتمعات الرفاهية التي نعيشها في فرنسا وألمانيا وانجلترا وبدرجة أقل أمريكا. لكن نحن في أوروبا لنا حقوق اجتماعية قوية، لكن هذه الحقوق لا تشكل إلا عنصرًا من عناصر دائرة الاعتراف القانوني. فهذا حاصل التوسع: الاعتراف القانوني لتضمينه مظهرًا ماديًا. وفي هذا المعنى جعل الاعتراف القانوني أكثر قانونية. المظهر الآخر للدفاع عن فكرة إعادة التوزيع سيكون بأن بعض القدرات أو بعض الإنجازات الحاضرة في نمط إنتاجنا غير مقدرة من طرف الأيدولوجيات الفاعلة في مجتمعاتنا، على سبيل المثال هناك بعض الأشغال غير المحترمة بالرغم من أهميتها الإنتاجية، وهناك مظهر آخر لإعادة التوزيع يتمثل في الاعتراف الكامل بالأفراد والمجموعات الاجتماعية. في هذا السياق إعادة التوزيع ليست إلا الواجهة لمبادئ معيارية أخرى متجذرة في مبادئ الاعتراف. بهذا المعنى، أنا ضد من يفرق بين الاعتراف وإعادة التوزيع، فهما وجهان لعملة واحدة.
ن. ع.: تحدثنا عن النقد الموجه إليكم بسبب إعادة التوزيع. لكن هناك نقد آخر موجه إليكم حول عملكم، خاصة حول الفكرة التي تعطونها أهمية للاعتراف أو للاحترام المؤدي إلى رغبة الأفراد في تمثل دور الضحايا، حيث ما نلاحظه أحيانًا أن هناك تنافس حقيقي بين الضحايا. كيف تردون على هذا النقد؟
ا. هـ: هذه مسألة معقدة، لا يمكنها أن تكون مرتبطة مباشرة بنظرية الاعتراف. هذا مرتبط قليلاً بصراعات الأهداف الشرعية للاعتراف. فالسؤال هو كالتالي: هل فقط مجرد أن تكون ضحية فأنت هدف شرعي لشكل خاص من الاعتراف؟ أعرف أن هذه التساؤلات هي أهداف لصراعات لا يمكننا أن نتفاداها، لكن لا يمكن أن نعطيها أهمية كبيرة. فهذه ثقافة جديدة تنتشر ويجب عليَّ كسوسيولوجي أن أحاول تفسيرها. فممكن لأفراد أن يتقمصوا دور الضحية للحصول على اعتراف أو احترام اجتماعي. هذا ما يبدو لي أكثر في مجتمع عجز عن تقديم أشكال مختلفة للاعتراف. فهذه أعراض مرض المجتمعات الحديثة. أن يحاول الناس الظهور في الإعلام كضحايا فهذا على سبيل المثال دليل على مرض المجتمع الذي همِّش الكثير من أفراده ومجموعاته الاجتماعية. لقد فقدنا الكثير من أشكال الاعتراف بالأفراد. فمحاولة تمثيل دور الضحية هو شكل من أشكال التوازن والتعويض؛ بقدر ما تكون ضحية نعترف بك. هذه إشارة على تغير مجتمعاتنا وثقافتنا.
ن. ع.: أظن أن إنشغالكم الحالي يتركز حول التحولات التي أصابت الرأسمالية. لقد عرضتم هذا المشروع على معهد فرانكفورت التي تديرونه. بماذا يتعلق أساسًا؟
ا. هـ: نعم هذا هو المشروع الجديد الذي اقترحته على معهد فرانكفورت. بإيجاز، نحن في مرحلة جديدة من الرأسمالية. فالمنعطف النيوليبرالي الذي حوَّل الرأسمالية نفسها، مثلاً فكرة الحرية وتقدير الذات. لكن هذه الأفكار تتطور بطريقة ما لتفرغها من محتواها. فعوض تحرير الناس بالسماح لهم بتحقيق ذواتهم تم خلق مبرارات جديدة لكبح جماح الذات بأشكال جديدة من مرونة العمل.
هناك تناقض كبير تعيشه الرأسمالية في طورها الجديد. كل التعاريف المعيارية للحرية واحترام تحقيق الذات تم طرحها بطريقة شبه أيديولوجية من طرف النظام الرأسمالي نفسه، لكنها آليات تساعد على الرفع من القوى الإنتاجية ليتم رفعها كشعارات للطور الجديد من الرأسمالية. نقترب أكثر من تحليلات لوك بولانتسكي الذي لا يشتغل بمفهوم الأيديولوجية لكن نتقاسم نفس الفكرة حيث أن المفاهيم المعيارية تنتج في الواقع نقيضاتها أو تفرغها من محتواها.
ترجمة: نورالدين علوش
٭ يعتبر الفيلسوف الألماني اكسيل هونيث Axel Honneth من أبرز الفلاسفة المعاصرين. كما أنه يشغل مدير معهد فرانكفورت الشهير برفع لواء النظرية النقدية.