"أزهار اللوز تغمز الشمس وتبشّر الطبيعة بانعقاد الثمر"
موسم النوّار الى س.أ.
أيقظ دفء شمس آذار الذي جاء بعد أيام غائمة ماطرة باردة البشر والطير والزهر والشجر فخرج أهل القرية المزروعة على سفح الجبل مثل شامة على عنق حسناء يتفقدون الحظائر والزرائب والمخازن ويصلحون ويرممون الأسقف والجدران وكانوا يحمدون الله في قرارات أنفسهم لأن الأمور مرّت سليمة فالسيل لم يأخذ عنزًا أو أتانا. وأما مصطفى الشاب الأسمر الطويل فقد ذهب إلى كرمه في خلّة السوّيد يتفقد أشجار اللوز ذات الأزهار البيضاء المشوبة بحمرة خفيفة كأن ريشة فنّان ماهر عبرت عليها بسرعة مذكّرة بشفاه عذارى القرية وصباياها. ومشى في الكرم يتفقد أشجار المشمش والتفاح والتين التي نهدت براعمها على الأفنان وفزّت تبتسم لأشعة الشمس. واطمأنّ على السلاسل وجدران الحجارة والصخور التي رتّبها صفّا صفّا وسلسلة سلسلة لتحافظ على التربة البنيّة من الانجراف حينما يغزر المطر ويتدفق الماء في الوادي. شمّر مصطفى عن ساعديه المفتولين وعن ساقيه القويين فبرز الشعر الأسود لامعا مثل عشب آذار وانحنى جسده الطويل الجميل القوي وشرع يعمل بهمة ونشاط يسند صخرة بحجر ويرمم جدارا ويقوّي سلسلة ويقلع عشبة بريّة جاورت جذع شجرة. كان مصطفى يعمل بسعادة وهناء ويرفع رأسه بين حين وآخر وينظر إلى الشجر مثل عاشق يرنو إلى حبيبته، وكان يبتسم للبراعم وللأوراق وللأفنان وللأزهار ويحاذر ألا يقترب من أشجار اللوزيات حتى لا يؤذيها فتتساقط أزهارها على التراب. وفرح وهو يرى أزهار اللوز تغمز الشمس وتبشّر الطبيعة بانعقاد الثمر. وفيما هو يعمل سمع صوتا يأتي من بعيد، صوتا يناديه، يناديه هو، فمدّ عنقه ورفع رأسه وحدّق في البعيد حيث قدّر مصدر الصوت. شاهد جسدا يرتدي ملابس قرمزيّة ويتحرّك. هذا جسد امرأة يا مصطفى. فمن تكون؟ وهذا الصوت الذي سمعته هو صوتها؟ وماذا تريد؟ وفكّر هنيهة. لعل الشاب يحلم. يتخيّل. يتصوّر. يوهم نفسه. يتمنّى. لا يعقل أن تناديه امرأة في هذا الوقت. فالوقت ضحى والطبيعة تبتسم خارجة من حمّامها لتجفف أشعة الشمس جسدها المبلل. - هيه.. يا مصطفى! ورفع رأسه وتطاول جسده الطويل، وحدّق بعينيه السوداوين الواسعتين إلى جهة مصدر الصوت. هي. هي امرأة. فستانها برقوقي. يراها. - أيْوَه. أيْوَه. سامع!! هذه لطيفة. لطيفة بنت صالح. هذه الجفرا كما يعرفها أهل القرية منذ نضج جسدها ونهد صدرها واستدار كفلها وتدفّق الدم في وجهها فلما تزوجت محمود ازدادت جمالا وتفجّرت أنوثة. شباب وجمال وأنوثة. فماذا تريد؟ لماذا تناديه؟ هل جرى لها شيء؟ هل حدث مكروه لمحمود؟ تزلّق على صخرة؟ سقط على الأرض؟ أي حادث حدث لها؟ - أنتَ وحدك؟ جاء سؤالها من بعيد يسابق الريح. - أيْوَه. أنا وحدي. ردّ مصطفى وتدفّق الدم في جسده ووصل إلى رأسه. - وأنا هون وحدي. ما معي حدا!! جاء صوتها أخضر معطرا. وتفتحت براعم على الأفنان. وغمز نوّار اللوز بعيونه الحلوة أوراق الشجر. وسقسق عصفور. ورقصت فراشة. وتمايلت برقوقة طربا. وتبسّمت وردة بيضاء. وغنّت نحلات نشيطات. وقفزت جداء على الصخور الرطبة.
براعم
نهضت سهير من نومها فغرّد ستة عشر عصفورا. وقفت بجوار سريرها بغلالتها الحريريّة الورديّة وتجبّدت لتطرد ما بقي من نعاس في جسدها فصفّق زغلولان بأجنحتهما العذراء يهمّان بالطيران. أعدّت قهوتها مع الحليب وحملت فنحانها وعبرت عتبة الدار إلى حديقة البيت لتنعم بشمس نيسان الدافئة وبألوان الأزهار المتفتحة والمبللة بالندى وبشذاها. وقفت على مقربة من شجرة الخوخ وارتشفت من فنجان القهوة بهناء. سهير تحب قهوة الصباح وتحب قهوة أمها وتحب أيضا القهوة التي تعدّها براحتيها الصغيرتين الناعمتين. شاهدت سهير البراعم الصغيرة على أفنان الشجرة تبتسم. براعم بنيّة اللون تتأهب لتتفتح. براعم ترنو للشمس. براعم تسمع سقسقات العصافير. تمرّدت براعم سهير على غلالتها، فسقط فنجان القهوة من راحتها، فشرب التراب القهوة مع الحليب. خير ان شا الله خير!!
العنبرة
التقينا في مطار ميونيخ وبعد حديث قصير قالت: اذًا أنت تعرف الدامون. قلت وشهوة حب الاستطلاع تغمرني: وأراها يوميّا. عدت غزلان بريّّة على وجهها الجميل وهي تسألني: وتعرف العين؟ قلت: وشربت من مائها في طفولتي. قالت: بجوار العين عنبرة كبيرة. قلت: يا ما قطفت من أزهارها العسجديّة وشممت عبيرها الذكي. قالت ونحن نشرب الاسبريسو: عندما تعود إلى الوطن قف بجوار العنبرة واقرأ الفاتحة لجدتي وطفا التي عاشت وماتت وهي تذكر العنبرة ولونها وشذاها. وصمتت كأنها تستحضر صورة جدتها ثم تابعت: وحينما كنت أسألها: طيب، شو في إلك يا جدتي في العنبرة؟ كانت تجيبني: إخرسي بلا قلّة حيا هاي عنبرة العمر، عنبرة عين الدامون، عنبرة الحياة. وفي احدى المرّات قالت: عنبرة جدّك هاشم. حينما نوّرت العنبرة في شهر أيار قطفت خمس زهرات ذهبيّة ووضعتها في مغلف وردي وأرسلتها بالبريد الجوي إلى عايدة البرازيليّة ذكرى لقاء عابر.