خطّة إنقاذ إقتصاديّة إيجابيّة ومحكمة وجدّيّة!

كيف تواجه أزماتك الماليّة الخانقة في مصلحتك وفي بيتك ؟! تعاني مصالحنا العربيّة ومجتمعنا بشكل عام من قصر الرؤية المستقبليّة, وحتى انعدامها في أحيانٍ كثيرة, ولا نخفي أنّنا عانينا كغيرنا في بداية حياتنا المهنيّة وتأثّرنا بالنمط التربويّ الذي نشأنا عليه منذ الصغر, فرجل الأعمال هو رجل في الأساس وهو فرد في مجتمع آسر, مجتمع يمتلك قيوداً وأغلالاً غليظة ويمارس كلّ أنواع الكبت والتثبيط تاركاً الأفراد يئنون تحت سياطه وسطوته ويتجرّعون مرارة قسوته, مجتمع لا يترك أحداً يتحرّر من أسره وجواذبه إلا بشقّ الأنفس ولا يألوا جهداً في فرض هيمنته التثبيطية على كافّة الأصعدة. وما دعانا إلى كتابة هذه السطور هو الصورة القاتمة لواقع مجتمعنا العربيّ الحاضر في مقابل الصورة الإقتصاديّة المشرقة التي مارسها نبيّ الله يوسف عليه السلام في غابر الزمان, وتكفينا الإشارة إلى موقف واحد من مواقفه الإقتصاديّة الحكيمة التي تكشف لنا أساساً متيناً ورئيسيّاً في السياسة الإقتصاديّة وفي التخطيط والتطوير طويلي الأمد, فتراجع المسلمين اليوم نابعٌ أساساً من إفراط أو تفريط, وكلا الأمرين شرّ, فأمّتنا أمّة الوسط والإعتدال في عباداتها وشرائعها وسياساتها واقتصادها, إلا أنّ طغيان الغلوّ في جانب دون جانب أتى على البقيّة الباقية من مظاهر خيريّة هذه الأمّة. فتجد الشاب أو رجل الأعمال إمّا متردّد خائف من كلّ جديد ومن كلّ مشروع, فتراه يفكر ويفكّر ويخطّط ويخطّط ثمّ يخطّط ويبقى يخطّط ولن يزال يخطّط حتى يموت, أو تجده متحمّساً متهوراً بلا ارعواء ولا تخطيط فترى سلوكه خبط عشواء وفشله متحتّم. إنّ الجدّيّة عنصر أساس في قيام كيان ربّاني اقتصادي وبدون جدّيّة ومثابرة ومتابعة وثقة ويقين لا يمكن أن تقوم مصلحة ولا مجتمع ولا قيم, غير الجدّي تجده إمّا مسوّفاً ومتميّعاً ديناً وخلقاً واقتصاداً وإمّا متهوّراً, والتهوّر في الحياة الاقتصادية وكذلك التسويف هما مظهران لداء واحد, فهذا المسوّف كسول ولا يحبّ المغامرة ويرتضي عيش الحفر وينظر إلى الجبال السامقة فيقول ما أبعدها وما أشقّ صعودها فيقنع نفسه أنها منتنة ولا حاجة له بها فيكسل ويُحجم عن مجرّد التفكير في الوصول إليها موهماً نفسه أنّ ذلك "قناعة",وفي المقابل فإنّ هذا المتهوّر هو شديد الحماسة للنجاح والوصول ويمنّي نفسه كثيراً ويحملها على الغرور وأحلام اليقظة ولكنه يريدها هيّنة سريعة مستعجلاً الثمر يبغيه بلا ثمن ولا جهد دون أن يسلك سنن الله في ذلك. فتكون المحصّلة أن الفاشلين فئتان "خائرون محطّمون" و "ثائرون حالمون" وهتان الصورتان تنطبقان على كافّة مناحي الحياة الاقتصاديّة والسياسية والاجتماعية والدينية والأسرية فإمّا "يائس نائم" وإمّا "حالم واهم" وبينهما عامل مشترك هو عدم الجديّة والضعف ولهذا كان المؤمن القويّ في حزمه وفي مثابرته وفي يقينه خير وأحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف الخائر الحالم الواهم النائم! فكيف نستفيد اليوم من سلوك رجل الاقتصاد (إن جاز الوصف) النبي يوسف النبيّ عليه السلام؟ بدايةً, نلحظ كيف يجب أن يكون المرء إيجابياً لا سلبياً, وكيف يكون عمليّاً لا نظريّاً فقط, فهو حين سُئِل عن تأويل الرؤيا, لم يكتفِ بتشخيص وتأويل الحالة الإقتصاديّة المقبلة ووصفها بل تعدّاها مباشرة إلى مرحلة التخطيط وإيجاد الحلول, وهذا من علوّ همّة هذا النبي التي ناطح بها عنان السماء, فقال عنه تعالى: "وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ" (يوسف 22) وقال هو عن نفسه: "قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ" (يوسف 55) وفي هذا أيضاً دلالة على ثقته العالية بنفسه وقبل ذلك وأثناءه وبعده على ثقته بالله تعالى وتوفيقه له حيث يتجلّى ذلك من خلال دعاءه: "قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ" (يوسف 33) فهو قد نفى عن نفسه الحول والقوّة وعزى ثباته إلى الله واعترف أنّ العون لا يأتي إلا من عند الله فيكون قد جمع في هذه اللحظة جميع الصفات المطلوبة في رجل الأعمال الصالح الناجح: (1) متوكّل على الله (2) واثق بتوفيق الله (3) واثق من نفسه (4) ذو علمٍ وبصيرة (5) ذو صبر وحكمة (6) ذو قوّة وثبات ! وينبثق عن كلّ هذه الصفات: الإيجابيّة والتخطيط والمثابرة ! وهي أسلحة رجل الأعمال الناجح الذي لا يعرف الجبن ولا توقفه العقبات ولا يتحرّك من دون دراسة وتخطيط مسبق ولا يتراجع عن هدفه! فمن ناحية الإيجابيّة, انظر كيف شخّص وعالج سيّدنا يوسف عليه السلام القضيّة حيث وصف الأزمة والحلّ في آن واحد فجمع بين التشخيص وبين خطوات الحلّ, فقال ستواجه الدولة سبع سنين سمينة وافرة وخصبة فاحرصوا وادئبوا وجدّوا ولا تألوا جهداً خلالها وذروا الحصاد في سنبله ليصمد المخزون أكثر وقتٍ ممكن ولا تقفوا مكتوفي الأيدي تبكون وتولولون وتنتظرون الساعة وتنتظرون الموت وتنتظرون الكارثة بين يائس وبين واهم, كلّ ذلك استعداداً لسبع سنين شداد يأكلن الأخضر واليابس إلا قليلاً ممّا خزّنتم وأحصنتم, ومن ثمّ في العام الخامس عشر يأتي فرج الله وتزول الشدّة وتنكشف الغُمّة وتنتهي الأزمة الإقتصاديّة فيُغاث الناس ويعصرون ويحتفلون ويفرحون بنصر الله لهم خلال هذه المحنة. فانظر إلى الإيجابيّة في مواجهة الأزمة والتخطيط والإعداد والإستعداد لمواجهتها, فلم يكتفِ يوسف عليه السلام بتشخيص الحالة الإقتصاديّة المقبلة وإنّما وضع خطّة محكمة صارمة سباعيّة لمواجهة الأزمة الإقتصادية المتوقّعة. ورجل الأعمال يتوجّب عليه أن يستشرف مستقبل مصلحته ويراجع حساباته ويتوقّع العقبات ويخطّط جيّداً لمخاطر السوق وأزمات السيولة في المصلحة, فالتخطيط السليم لسيولة المصلحة المستقبليّة كفيل بمنح رجل الأعمال القوّة والثقة وإعطائه الوقت الكافي لتحديد خطوات المواجهة والمجابهة, فسيّدنا يوسف اتّخذ خطّة مواجهة استعداديّة واستباقيّة للأزمة مدّتها سبع سنين كاملة وتبعتها سبع سنوات من المواجهة المباشرة وجهاً لوجه مع الأزمة الجارفة, هذه الأزمة قد تكون بالنسبة لرجل الأعمال: أزمة سيولة أو أزمة نقص مواد خام أو أزمة ارتفاع أسعار أو أزمة مبيعات أو أزمة دخول منافس قوي للسوق أو أزمة دخول منتج جديد منافس, وهذه الأزمات كما قد تواجه المصالح الكبيرة فقد تواجه كذلك الصغيرة منها وقد تواجه الأسر والأفراد, فأزمة السيولة قد تعصف بالأسرة في كلّ حين ولأسباب عدّة منها ما هو خارج سيطرتها ومنها ما هو داخل سيطرتها, تماماً كالمصلحة التي تقرّر التوسع لفروع أخرى وخطوط ومنتجات أخرى, فهذه توسّعات وأزمات ضمن سيطرة المصلحة وبإمكانها تحديد مكان وموعد الشروع بها في غالب الأحيان ومع ذلك فما هو تحت السيطرة قد يصبح مفروضاً على المصلحة لطارئِ غير متوقّع, وهنا يبرز دور التخطيط ودور التخزين والإحتياط والتوفير في أيّام الرخاء وضرورة تجنّب البذخ والإسراف والتبذير. فالعائلة التي لا تخطّط لمستقبلها ولا تتّخذ إحتياطات للطوارئ هي عائلة متواكلة وليست عائلة متّكلة, وفي موقف نبيّ الله يوسف القدوة, فهل سيّدنا يوسف وقف مكتوف الأيدي أمام "الكارثة الطبيعيّة" التي تنتظره؟ لا, بل أعدّ لها واستعدّ وادّخر واحتاط ووضع خطّة سباعيّة مزدوجة لمرحلة الرخاء ومرحلة الشدّة على السواء ففرّ من قضاء الله إلى قدر الله ! فأسهل شيء أن يتواكل الإنسان ويخلد إلى الراحة بلا تفكير ولا تخطيط للمستقبل معتبراً هذا الضعف إيماناً وتوكّلاً وقناعة وفي الواقع هذا ليس إلا هروباً وخلوداً للدعة والكسل, فهل نبيّ الله يوسف عليه السلام, وهو من أنقذه الله من جوف البئر, أكان غير متوكّل وقد شهد عناية الله وعاينها وعايشها لحظة بلحظة في جوف بئر في باطن الأرض على صغره وانعدام حوله وقوّته؟ أكان نبي الله غير متوكّل وهو من وصل خوفه من الله درجة أهلّته للنبوّة وليحوز شرف تسمية سورة كاملة على اسمه قرآناً يتلى إلى قيام الساعة؟ فنبيّ الله وعلى عكس الخاسرين المنهزمين الضعفاء كان حفيظاً عليماً قويّاً حكيماً مثابراً مخطّطاً محنّكاً مسدّداً عالي الهمّة وواقعياً وعفيفاً وشريفاً ونظيفاً . . . إنّه كان من المحسنين. هذه صفات المسلم في عمارته للأرض حين يكون فاهماً وواعياً وموقناً أنّ عمارته للأرض عمارةٌ يؤجر عليها وحين يتمثّل قول الله تبارك وتعالى: "قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)" (الأنعام)