ربما كان ذلك ايمانا من امريكا بأن العرب هم منبت الحضارة الإنسانية, ومن فضاءات عقولهم نشأت العلوم, حتى دفن ساسة امريكا المحنكون وجوههم في قصص ونوادر جحا. واستخلصوا منها قصة المسمار التي تحكي أن جحا أراد يوما بيع داره دون أن يفرط فيها تماما. فاشترط على المشتري أن يترك له مسمارا في أحد جدران المنزل, فوافق المشتري دون أن يلحظ الغرض الخبيث لجحا من وراء الشرط, وفوجئ بعد أيام بجحا يدخل عليه البيت, فسأله عن سبب الزيارة؟ أجاب جحا : جئت لأطمئن على مسماري, فرحب به الرجل, أجلسه وأطعمه, حتى حل الليل, فخلع جحا جبته وفرشها على الأرض متهيئا للنوم. لم يطق المشتري صبرا وسأله : ماذا تنوي أن تفعل, أجاب جحا بهدوء : سأنام في ظل مسماري. تكرر هذا كثيرا, وكان جحا حريصا على اختيار أوقات الطعام, ليشارك الرجل طعامه, فلم يستطع المشتري الاستمرار على هذه الحال, فترك الدار لجحا بما فيها وهرب. لكن أمريكا أشد مكرا من جحا, إذ امتدت أطماعها خارج ممتلكاتها, باحثة عن مسمار تأخذه إلى أي مكان ترى فيه ما لذ وطاب من الأطعمة النفطية والثروات المعدنية, حاملة معها مطرقة من عصر الهنود الحمر الذين عرف عنهم حب الدق, لتمارس هوايتها في دق المسامير على الجدران الاستراتيجية, بينما يقف العالم في صمت العاجز, يتعالى الى مسمعه بين الحين والآخر صوت دق مسمار هنا وخلع آخر هناك. وما بين الدق والخلع تتنامى خبرة أمريكا في المسامير, الأمر الذي يحتم عليها ضرورة البحث عن مسمار طويل الأجل لا يمكن خلعه. بعد البحث والتنقيب توصلت إلى مسمار غير قابل للخلع أو الكسر أو الصدأ, مسمار بحروف خمسة "إرهاب" يتكيف مع مختلف أنواع الجدران, لا يحتاج مطرقة الهنود الحمر لتثبيته. يكتسب قوته من فشل سوبرمان البشرية المدعوة "الأمم المتحدة" لعام آخر في إيجاد تعريف للإرهاب, مما أدى إلى تأجيل صياغة معاهدة جديدة لمكافحة الإرهاب, وكيف لا تعجز 191 دولة في الوصول إلى تعريف مشترك للإرهاب, وتتعاون الأفكار فيما بينها إذا ما طرحت إحدى تلك القضايا للنقاش : التفجيرات .. القنبلة .. الرصاص .. فإذا اقترنت التفجيرات بالإرهاب, فهذا يعني أن ما تقوم به إسرائيل من تفجير منازل الآمنين وسيارات المجاهدين يقع تحت طائلة الإرهاب, لكن يجب ألا توضع إسرائيل , خليلة أمريكا, في مطب الإرهاب, إذن فالتفجيرات لا تسمى إرهابا, هذا يعني مرة أخرى أن ما حدث في 11 سبتمبر ليس إرهابا, لكن أحداث 11 سبتمبر وضعت في دائرة الإرهاب, إذن فالتفجيرات إرهاب .. هنا تتضارب المحاكمات المنطقية والمعادلات الرياضية والفلسفات الكلامية ويصل المجتمعون إلى حالة الصمت والإقرار بالإجماع على تأجيل صياغة تعريف محدد لإرهاب إلى وقت آخر .. وتترك أمريكا مؤتمرات الأمم المتحدة و 191 دولة في تشاجر أفكارها وصراع المتناقضات, لتمارس بنزعة القوة والتفرد مكافحة الإرهاب وفق منطق النظام العالمي الأمريكي الجديد الذي يقضي بأن التفجيرات لا تعد إرهابا إذا ما أطلت قنابله من فوهة مدفع إسرائيلي أو أمريكي,فهي كمدفع العيد والألعاب النارية , تفيض بهجة وسرورا على كل من يراها ويصاب بها. أما إذا خرجت من فوهة مدفع عربي يعلن بدء شهر رمضان فهو الارهاب بحروفه الخمسة, وان تلألأت رصاصة من مسدس اسرائيلي أو أمريكي, فهي تعبير عن الفرح لخطبة أو زواج, أما إذا خرجت من فوهة بارودة صيد عربية فهو عمل ارهابي يستهدف ضرب الثروة البيئية بأكملها. وما تختزنه أمريكا من الأسلحة النووية, فضلا" عن الترسانة النووية الإسرائيلية ليست إلا درهم وقاية, لكن إن وجد برنامج نووي في إحدى الدول العربية أو الإسلامية فهو مخطط لتدمير البشرية والحضارة الغربية يجب إنهاؤه وإنهاؤها على الفور. شيء وحيد لا يمكن لأمريكا وإسرائيل التنازل عن اعتباره إرهابا" "حجارة الانتفاضة الفلسطينية" ذات الاستخدام احادي الجانب, ذلك أن أمريكا لا يمكن أن تتورط في عمل إجرامي مناف للإنسانية فتستبدل بقنابلها الحجارة, ولم يحدث يوما" أن انتهك الجندي الإسرائيلي حقوق الإنسان الفلسطيني بضربه بالحجارة بدلا" من الرصاص ! على هذا الأساس تنطلق أمريكا في مكافحتها للإرهاب موجدة" لها في القاعدة مسمارا" آخر تنقله إلى المكان الذي تود ملء معدتها منه, فألبستها جنسيات عربية وإسلامية مختلفة, لتتمكن من النوم في ظل مساميرها بأي بلد عربي أو إسلامي تشاء وهي تحلم بأن يصل حال تلك البلاد إلى ما آلت إليه حال المشتري في قصة جحا. وها هي الآن تنام في ظل أحد مساميرها, بعد أن احتلت العراق ونحَّت صدام عن الحكم, كما نحّى جحا المشتري من بيته, مُدخلة أحد مساميرها في جدران العراق النفطية. ولعل تصريح مستشار الرئيس الأمريكي للشؤون الاقتصادية (لورانس لينزي) لصحيفة ( واشنطن تايمز) في 2002.9.17 م الذي أجاب فيه عن سؤال حول الكلفة الاقتصادية التي تقدر ب ( 200 مليار دولار) للقيام بعمل عسكري ضد العراق كان اعترافا" صريحا" وواضحا" بأطماعهم , حيث أجاب بما نصه : " في ظل أي سيناريو, فإن التأثير السلبي سيكون بسيطا" نسبيا" مقارنة بالمزايا الاقتصادية إذا نفذنا الحرب بنجاح, القضية الأساسية هي أن النفط وتغيير النظام في العراق سيسهل زيادة إنتاج النفط العالمي, مما يساعد على خفض الأسعار, وبالتالي يمكن تدبير التكاليف الباهظة..". أحلام ليست ببعيدة , فها هو العالم يراقب جدرانه المثقوبة والمسامير المعلقة, منتظرا" بدء محاولة جديدة لإيجاد تعريف محدد للإرهاب قد يبنى على أساسه كيف وضد من يكافح الإرهاب, وحتى ذلك الحين لا نعرف كم من الجدران ستثقب, وتحت ظل أي من المسامير ستنام أمريكا ؟ !