بادرني عليّ:
لله در لغتنا العربية كم هي جميلة مطواعة، لو فتشت في كل لغات العالم عن تعبير يعطي الحالة التي ألمت ببلدنا يوم أقفل الحاكم العسكري لمنطقة الشمال أرض "الخيط" أمامهم لما وجدت، إلا أن "عربيتنا" أعارتني من لدنها لأعبّر.
كانت البلد تغلي كالمرجل فلم تكن النار التي تجعل ماءه يتخبط ويتلاطم ويخر ألما متحفزا لسلخ جلد من يقربه، بأحر من النار التي أشعلها هذا القرار في أفئدة أهل بلدنا وجعلها أشد إضراما متوثبة لسلخ من ينوي سلخها عن أراضيها، مع الفارق الكبير إذ عاجلا أو آجلا ستتبخر مياه المرجل، لكن أهل بلدنا لن تتبخر العزيمة من أفئدتهم مهما استوحشت ألسنة اللهب ومهما صبّ عليها الحاكم من وقود. هكذا خيّل إلى عليّ أول الأمر وهو يرى الألسنة المتعالية متوثبة تباري الشمس حرارة في اشتعالها، لكن خياله خانه وها هو يندب:
تلاطم أول الأمر أهل البلد جميعا بكل الحرارة التي ملأت أفئدتهم مع قرار الحاكم وكادوا يذرونه رمادا، لولا أن فتر اشتعال بعضها وانطفأت الأخرى وغيّرت بعض ألسنة اللهب وجهتها، حتى بلغ الخوف أشدّه من أن تحرق الأفئدة بعضها بعضا فهمدت نارهم، إلا جمرات ظلت متأهبة تحت الرماد تطلق بين الفينة والأخرى شرارا ينذر بالاشتعال.
- لا مردّ لقرار الحاكم...
عليّ: بسببك...
- كف ما تلاطم مخرز...
عليّ: مثل كفك...
- إخزي الشيطان...
عليّ: هو بينّا...
وتشابكت الأيدي وتمرّغت أنوف بالتراب، وعلت ألسنة لهب من نوع آخر ووقودها من نوع آخر، وصار على العُقَال أن يطفئوها بما تبقى من مياه "خوابي" البلد الفخاريّة الحافظة مياه عيونها الزلال لتبلّ الحلوق العطشة من طول شقاء الأيام. استنفذت النار كل مخزون خوابي البلد إلى أن همدت، لكن ليس قبل أن تهمد جثة أرض "الخيط" تحت خبيب نعل الحاكم وحاشيته.
ولم يبق على حد قول عليّ إلا تدبير مراسم الدّفن وعقد راية الصلح على الديّة التي يُتفق عليها، فقال:
عاد المختار من المدينة بتوابيت وأكفان من كل الأحجام والألوان، لأن القرار كان أن تقطّع الجثة قطعا وتدفن كذلك، على أن يختار أهل العزاء الطريقة والمكان ونوع الديّة التي يأخذون، متنازلين عن دم قتيلهم مسامحين كما العادات العربية المتأصلة رغم أن "الصلحة" لم تتم حسب الأصول العربية برضى الطرفين إنما قسرا وقمعا لأهل البلد. حدّدت الديّة أكياس لم يروا مثلها سابقا أو أن يأخذوا بدلها من الجرحى المكدسة أجسادهم في سهول قرانا المهدمة وعليهم التكفّل بحياتهم.
وقد حددت الديّة بثلاث عشرة ألف وحدة على عدد قطع الجثّة، منها أكياس تنسي صاحبها الحزن على فقيده ولو لمدة. أو جرحى معارك النكبة الذين ما زالوا ملقوحين في سهول الرامة وفراضية وكفرعنان يلعقون جراحهم.
قال عليّ:
انقسم أهل البلد معسكرين تماما كما ينقسمون أيام "الطوشات"، فاختار واحد الديّة، الأكياس. واختار الآخر الجرحى رغم الفتوى التي كان أطلقها شيخ البلد: أن أخذ الجرحى رهائن حرام إلا إذا نوى المنتقي حُسنَ النيّة بتطبيب جراحهم إلى حين عودة أهلهم فيعيدهم إليهم سالمين، عاد قتيله أو لم يعد، وإنما الأعمال بالنيّات.
رغم الفتوى ومنطقيتها والتي تدل على ذكاء وبعد نظر عند الشيخ، إلا أن عليًا تردد كثيرا قبل أن
يقبل الديّة، ويوم راح يعاين الجرحى في سهل كفر عنان هاله ما رأى، فلم يكن الجرحى إلا بنات محمد العلي ابن كفرعنان الذي ابتلعته حرب الثمانية وأربعين من جانبه في موقعة فراضية. طال إحجامه قبل أن يقدم لكنه أقدم وراح يتحسس جروح بنات محمد العلي ويبكيه.
بدأت الحياة تعود إلى البنات والألم الذي لفّهن يخف تحت لمسات أيدي عليّ الدافئة، والحزن يتحول صبرا وغناء الحفيف الذي غاب منذ زمن صار غناء حزينا شجنا، لكنه في نهاية الأمر غناء.
كانت أيام قطف الزيتون أعيادا عائلية، فدمه البلسم في العياء والنور في الظلماء، وقطافه آخر مواسم الفلاح الفلسطيني فيقطفه على مهله ومهما طالت الأيام مداعبا أغصانه المدلاة برفق. لكن حتى هذا تغير في أيامنا فلم يعد زيتوننا وقمحنا وتيننا كفاف مئونتنا وكأنه المُلام فنترك تيننا يأكله الدود ونقسو على قمحنا ب"قواريط " صدئة وعلى زيتوننا ب-"المفراط" وال-"الشقشاقة" وال-"عُبيّة" مكسرين أطرافه وكأننا نحملهم وزر ما نحن عليه من الركض وراء لقمة العيش.
على ذمّة عليّ:
جاءت أغصان بنات محمد العلي في ذلك الموسم مشكوكة كالمسابح، وكان على عليّ أن يفرطها قبل أن تنتهي إجازته التي لم يحصل عليها إلا بطلوع الروح. دخل الكرم باكرا سابقا كل العائلة، دون أن يصبّح على غير العادة، ممتشقا مفراطا من خشب السنديان المقمّر، بدأت تإن تحت ضرباته إحدى البنات وقد بدأت جراحها التي التأمت تتفتح نازفة وخصلات شعرها تتهاوى. لم تطق صبرا رغم أنها نوت أن تتحمل فالبكاء لغير الأهل مذلة لكن دموعها غلبتها فسالت مدرارة، وتأوهت:
-آه... يا أبي أين أنت!
ارتجف قلب عليّ وجمدت يداه، سقط المفراط من بين يديه فارتمى باكيا في ظل أختها الروميّة التي رمت نحوه شالا من شالاتها ماسحة دموعه:
-لا تبك يا عليّ ! لا تلمها فهي ما زالت صغيرة !
- محمد العلي يستحق البكاء !
وعاد يمسّد أطراف وخصلات شعر صغيرة محمد فطاب له ولها ملمس الخصلات وانقطعت دموعها ودموعه. لم يعد يعدّ الأيام، فطالت بعد أن طابت له مداعبة خصلات شعر بنات محمد يمشّطهن برفق مجتهدا ألا تقع شعرة من رؤوسهن ليبقى شعرهنّ إكليلا يستقبلن به رفيق سلاحه يوم العودة.
وعندما عاد إلى البيت يرفل بماء أثدائهن الذهبي، رمى الورقة التي وجدها في البيت من مكان عمله دون أن يقرأها إلى ستين جهنم.
سعيد نفاع