(1) للشعر صلات عميقة بمفاهيم ومقولات عديدة تطبعه ثقافياً بطابعها، وتسهم في تشكيل أدواته الجمالية ووظائفه، وتؤثر، من ثمَّ، في تشكيل الذائقة، والشخصية، والقيم الاجتماعية والثقافية، ومن تلك المفاهيم في الشعر العربي، كما راج في النقد القديم، مفهوم الفحولة، وما حفَّ به من معانٍ ودلالات مهيمنة أو شبه مهيمنة على نسجه وتلقيه في المجتمع العربي. وبإطلالة بانورامية على المشهد الشعري القديم يستوقفنا، في مجمل ما يستوقفنا، حديثٌ للفرزدق مع شاب جاء يستشيره في شعر قاله: “وإن الشعر كان جَمَلاً بازلاً عظيماً فنحر، فجاء امرؤ القيس فأخذ رأسه، وعمرو بن كلثوم سنامه، وزهير كاهله، والأعشى والنابغة فخذيه، وطرفة ولبيد كركرته، ولم يبق إلا الذراع والبطن فتوزعناهما بيننا”. حكاية الفرزدق هذه – يقول د.عبدالله الغذامي في ثقافة الوهم – تنطوي على مقولة فحولية… وبما أن الشعر جمل وليس ناقة، فالشعر رجل، وهو نصيب طبقة الفحول، وإن كان من مصلحة الشعر أن يكون ناقة وليس جملاً. وهي مصلحة تعني البقاء وقابلية الإنتاج والتوليد. ثم أن سيرة الفرزدق مع الشعراء والشباب في عصره – يؤكد الغذامي- لتكشف عن سلوكيات النسق الفحولي الذي يقف موقفاً لا يعترف بالصوت الشعري المؤنث، كما يتجلى في ما قاله الفرزدق في امرأة قالت شعراً: ” إذا صاحتِ الدجاجةُ صياحَ الديك فأذبحوها “. ولعل في هذه الإشارات المستدعاة من التراث الأدبي العربي، ما يستحضر تحولات كبرى وصغرى في مسار الشعر عبر التاريخ والعلاقات والأنساق الجمالية والإنسانية، التي عني بدراستها وتحليلها باحثون متخصصون وفق منهجيات نقدية مختلفة، وهي ليست موضوعاً للتناول هنا، إلا بقدرما تنتج محاولة لتأمل العلاقة بين الشعر/ القصيدة، وحركة التحولات الجمالية والإنسانية وأنساقها الثقافية، بما يضيء بعداً ثورياً غير تقليدي، أو “غير فحولي” تحديداً. (2) لعل مما سيؤرَّخ له عن ثورات التغيير العربية الراهنة أنها متسمة بالطابع السلمي المعتمد على قوة الاعتصام الناعمة، لا الاحتدام المسلح، أو الانقلاب العسكري. فالاعتصام الشبابي ساحة تشكل نظاماً آخرَ حراً مغايراً، يجرد النظام الحاكم من عناصر قوته العتيدة، التي راكم قدرات بنائها وتطويرها وإعدادها وتجهيزها بمليارات أفقرت الشعب، بانتظار أن تقمعه عندما يخرج في تظاهرات يلصق بها صفة الشغب ليسوغ تفريقها وضربها بلا هوادة. لكن فلسفة الاعتصام السلمي تبدو ذات فاعلية متجاوزة، فكل اعتصام سلمي هو أقوى من أطقم مدججة من الأمن المركزي وغير المركزي، بعتاد غازاتها السامة وخراطيمها الساخنة، ورصاصها الحي، والهراوات الكهربائية. قوة الاعتصام الشبابي المدني، تجعله متبوعاً لا تابعاً، فتنساق إليه، كما في الحالة اليمنية مثلاً، قوى تقليدية وغير تقليدية، مدنية وعسكرية: قوى الحزبية: معارضة بأطيافها وتحالفاتها – عناصر منشقة عن الحاكم – رموز ومراكز قبلية – رموز وقوى عسكرية وأمنية…إلخ. ويترتب على ذلك أن القوى الحزبية تتماهى أجندتها في أجندة الاعتصام، وتتجرد القبيلة من رمز قوتها: السلاح، لتجد في الساحة سلاحاً أمضى، هو الوقفة السلمية، في حالة من حالات التحول، بمستوى ما، في درجة الموقف باتجاه الاستجابة لفاعلية التغيير، وتتحول القوى العسكرية والأمنية من قامعة إلى حامية، ومن مستقوية بالسلاح إلى قوية بالخيار السلمي. فلا الأحزاب ولا القبائل ولا العسكر يستقوون بأساليبهم القديمة، وبذلك تسقط فكرة الانقلاب، أبيضَ كان أم أحمرَ، فلا مجال للتفكير في السيطرة المسلحة على مبنى الإذاعة والتليفزيون لإعلان البيان رقم واحد، حيث لا أهمية استثنائية للإذاعة أوالتلفزة الحكومية أو وزارة الإعلام، فثمة أسلوب جديد يختزل المسافات والطاقات، حيث الفيس بوك والتويتر واليوتيوب فضاءات حرة، تؤكد فاعلياتها القنوات الفضائية التي لم تعد تدار بعقلية وزارات إعلام الأنظمة القمعية، في عصر العالم/ القرية. وفي هذا السياق يتداخل وعي شبابي ذو تقنيات حديثة بوعي تقليدي أو بنية تقليدية نقيضة لكنها تحاول الارتباط أو الالتحاق به ( أو احتواءه وفق ما ترسب في قاع الوعي التقليدي) ، مقابل بنية ترى الوعي الحديث نفياً لها بقانون التحولات، ليتجلى الخطاب الشبابي تنويرياً حراً يتجه صوب الغد، فيما يبقى الخطاب الرسمي رهين ادعاء فحوليته واستبداديته وارتهانه لثوابت بلاستيكية هي من صنعه. فيبدو المشهد في الساحة: بلاطجة وقناصة ومرتزقة مدفوعون بالمال العام، إزاء جموع معتمدة على الذات،، وتلوح في الفضاء بورود معتصمات ومعتصمين، ويرفع اليافطات السلمية شباب، وشابات، وأطفال وطفلات، في لوحة مفارقة للسائد الذي استبد بالأفق، فأغلقه عقوداً. . مع هذه التحولات نكون إزاء: صخب يستميت، وهمس يمتد – فحولة تتسيّد، وأنوثة تنسرب- شعر يتعبّد أنماطه، وقصيدة نثر تشقلب المسلّمات الجمالية. هي إذن لحظة تحول من صخب إلى همس، من فحولة إلى أنوثة، من ثورة مسلحة (أو انقلاب عسكري) إلى ثورة ناعمة ( أو تغيير سلمي)، من ديكتاتورية عسكرية إلى ديمقراطية مدنية…إلخ. (3) و لعل من اللافت أن القصيدة العربية في تجليات شعريتها المعاصرة، حرةً ونثريةً، مؤسسة على قطيعةٍ جمالية وتعبيرية، مع مفهوم الفحولة والامتداح للخطاب الرسمي، حد أن تلك القصيدة لا تتسع لمديح الحاكم، فلا مجال له بقصيدة حرة، أو قصيدة نثر، ولعله لذلك لا يمتدح المداحون الحاكم المعاصر إلا ضمن النمط الخليلي، باستدعاء الصخب القديم، في صورة من صور المماثلة بين فحولتين: فحولة المديح، وفحولة الحاكم. ولذلك يبدو خطاب القصيدة الحديثة على النقيض من الخطاب الرسمي تجذيراً لشعريته بالدرجة الأولى. ولعل من اللافت أيضاً، في الحالة الثورية اليمنية، أن الشعر المكرّس رسمياً هو شعر الامتداح المرفوع للحاكم، الدائر في فلك منجزاته ومعجزاته، ويستوي في ذلك فصيح الشعر وعامّيّه، على خلفية التلقي الشفاهي الذي شكّل ومازال يشكل ثقافة الحاكم ويؤثث ذاكرته المستبدة التي ليست على وفاق مع الكتابية منتجاً فكرياً، ولذلك فهو يراوح في المنطقة الشفاهية مقطوعة الصلة مع معطيات العصر، ولا يرى أهمية لأي تحول إلا بمقدار اقترابه من وعيه الشفاهي، فيبدو الشعر في متخيله الفطري، أداة تسلية وتمجيد، حد أن يرقى الشعراء المدّاحون وظيفياً، ويغرقون في امتيازات غامرة، مكافأة على كلمات مديح تلقى في احتفال، أو تغنى في مهرجان، بينما يعيش أدباء وشعراء حقيقيون على الكفاف، مهمشين، ويموتون فاقةً وعوزاً، لأنهم على قطيعة معرفية وثقافية وجمالية وأخلاقية، مع قيم الشفاهية الموصولة بمفهوم الفحولة الشائهة التي يتمثلها الحاكم الشفاهي التلقي، في زمن التلقي الكتابي والتكنولوجي. وعلى الطرف المقابل يكرس شعر الاعتصام لغةً آخرى توجه خطابها إلى الشعب وقيم الثورة السلمية، في ساحات يستوي فيها المعتصمون والمعتصمات، حيث تبدو، على نحو لافت، حشودٌ نسائية، أسقطت عنها ثقافة الاعتصام ما تحاول البنية التقليدية في المجتمع التقليدي، الضغط به على أنفاسها المؤنثة، وتتلاشى، في السياق نفسه، مقولة الفرزدق المشار إليها في بداية المقال:” إذا صاحتِ الدجاجةُ صياحَ الديك فأذبحوها “، فدجاج الاعتصام – إذا استعرنا تعبير الفرزدق- يستعدن ( وأفراخهنّ أيضاً ) حقاً ممنوعاً، وفق ثقافة الديك الفرزدقي، وهنا يتجلى بعدٌ مضيءٌ من أبعاد الثورة الشبابية السلمية