عندما أعلن نتنياهو عزمه على تقديم الانتخابات للكنيست، أدخل جميع الأحزاب القائمة في حالة ضغط وإحراج. إعلانه فتح بورصة التكهنات على مداها الواسع. أعضاء الكنيست الحاليون شرعوا في إعداد حساباتهم والخوف يلفهم، فبعضهم لن ينعم بعد الانتخابات بما ييسّره ذلك البرج الذي من جاه وزجاج. عندما تراجع نتنياهو عن عزمه ذاك، وبادر بإلحاق موفاز وكتيبته إلى مرافق السلطة وحظائر الغنائم، ارتاحت "قيادات" الأحزاب وتنفّست برئتين مليئتين، حتى أنّهم لم يتعاطوا مع ما قام به نتنياهو ومعاني تلك الفعلة السياسية ودلائلها على طبيعة النظام القائم في هذه الدولة. تجنيب زعاماتنا تلك المخاطرة كانت هي الحدث الأهم ولبعضهم ضمان لعامين إضافيين من المنصات وشبك الأيادي في الصف الأول الذي تحوّل إلى مشهد مألوف وضرورة حياة، فمن هناك استطاعوا قيادة معارك تحريرنا وإيصالنا إلى بئر الحرمان وشواطئ من رمل ونار وبيلسان. للحقيقة، وها أنا أعترف للمرة الأولى وأقرّ أنني كنت من أوائل من ارتاحوا من تراجع نتنياهو عن قراره بتقديم الانتخابات، مع أني كنت وما زلت من قوم يؤمنون بضرورة المشاركة الفعلية في هذه العملية الهامة. الإدلاء بصوتي هو عربون بقاء في أرضي مواطنًا مشاركًا ومحاسبًا مشاكسًا وصاحب حق في الوطن والمستقبل. لست بغريب ولا بطارئ ولا مسافر على رصيف الوعيد أو حالم بوعود خادم رعديد أو عند صاحب "العيديد". لم أومن بمقاطعة الانتخابات مهما كانت الأسباب والذرائع ولذا أدليت بصوتي في الماضي وكان عليّ أن أفعل ذلك في أيلول القادم لو لم يتراجع نتنياهو. فرحت لأنّني كنت في حيرة من أمر صوتي. فللمرة الأولى في حياتي لم أشعر بأنّني سأصوَّت بشكل طبيعي لمن درجت أن أكون معهم وفي صفّهم، فهم من قاوم وصمد، وهم من بنى وعلّم وهم من نثر وبذر، وكانوا حليب قوامنا وكنت وجيلي في حضنهم الدافئ وعلى دربهم الواعد. في الماضي كانت يدي تنتقي البطاقة بطبيعية وألفة ابن لحضن والدته، واليوم أخالني أقف وقفة الحائر، فالطريق هو طريقي ولكن "نامت نواطير حيفا عن ثعالبها". متعب أنا ومثلي كثيرون. رمادية هي الأيام ولا قوس قزح. نفاق وشقاق ولا موعد مع فجر عليه أنام. نفسي وبعدي الطوفان، القيمة العليا وفخر أجيال الحاضر وسوس المستقبل. زعامات في بعضها ما زال الأمل معقودًا، لكنَّها تخيّب في كل كبوة، فكم كبوة للجياد؟! عودة لمواضٍ حسبناها قد ولّت. حصار هنا وحصار هناك، أهرب من حيفا فأغرق في زبد رام الله. زعماء تتشابه وكأنّها من بيضة الديك ذاته. يشغلهم زبد الكلام وأحاديث الملاهي. سباقات في حلبات وطنية عارية من "وطن" و "نيّة". يسجٌلون فيها انتصارات هي أكذب من وهم. سادة في الحرف والنص والترديد وعبيد للسائد، فلا تغيير ولا إصلاح ولا تجديد. عالم من نشيد مليء بالنشاز وسفيه الكلام. ففي فلسطين كما في فلسطين، حناجر تصيح، حناجر لا تشيخ وحناجر للتخوين. ساحات نابلس كساحات حيفا وكما كان هكذا سيكون، كأن الزمان اختفى ولا أمر قد انقضى. جيوش تكر باسم مفتٍ وترسم النصر على رايات من خبل ونخيل، وأولاد مَن وعد أن يصنع من جماجمنا للمجد سلّما ما زالت تعد سلالم من ريح ودخان. فلسطين الأمس فلسطين اليوم، وها هم إخوة "حنين" يخوِّنون "سعيد"، و"طيبي" يصرخ من تقصير "جمال"، وشيخ يعدنا بنصر قريب أكيد لن يكون فقط في جليل بل إمارة وطيدة في بلاد الغال وحتى جبال الجليد. فلسطين اليوم كفلسطين الأمس، عالم من خيال ووهم ومستحيل. أهرب من زبد حيفا فأسقط في عبث رام الله. الكلّ يخوّن الكل. حب كحب الأفاعي وكعناقها. لا يجتمع اثنان إلّا والنميمة ثالثة والاستغابة سيدة. ثورة تعيش على قصيدة ووطن كان في حقيبة فرحل صاحب الحقيبة وتاه الوطن. "فتح" و"حماس" والعدو "سلام"، يسار مشتهى ويمين مدّعى ولا ضير فإمّا البحر وإمّا الصحراء، وهذا ما كان وهذا ما سيكون. أمريكا هي التهمة يا سلام والشهوة أمريكا يا سلام، فأين المفر؟ غابة والظلمة على قدر أهل الذل والشك وفرسان الحطام. الزمن زمن نتنياهو وصحبه وآله ومن في فلكه يسبحون. وفي فلسطين اليوم كما في فلسطين الأمس، تدجين وترويض وشقاق ونفاق ونميمة. أمل ووعد وحق وتاريخ وسلام، وأنا ومثلي كثيرون متعبون من عفن ومن كلام، فالوجع فياض. ولك نتنياهو، لا شكر فلقد أرحتني من قرار وختام.