ولد قسطنطين زريق في مدينة دمشق بتاريخ 18 نيسان 1909، لعائلة أرثوذكسية عُرفت بتعاطيها الأعمال التجارية، وكانت تقطن حي القيمرية، وهو من أشهر أحياء دمشق القديمة، ومن أهم مواطن التجار الدمشقيين. وكان والده قيصر قد هاجر إلى كولومبيا ثم عاد قبل الحرب العالمية الأولى وتزوج وأنجب أربعة أولاد كان قسطنطين أكبرهم، ثم نزح الأب قيصر مجدداً إلى كولومبيا في عام 1923 وتوفي بعد عام واحد وهو في المهجر.
أمضى قسطنطين طفولته وصباه في دمشق، وكانت عائلته قد انتقلت إلى دار للسكن تحيط بالكاتدرائية والمدارس الأرثوذكسية، وتجاور الأحياء الإسلامية. وقد خلفت أجواء التسامح والتعاون التي سادت بين أبناء الديانتين أثراً بالغاُ في نفسية زريق وشخصيته.
أتم زريق دراسته الابتدائية والثانوية في مدارس الطائفة الأرثوذكسية. وعلى الرغم من الارتباط الطائفي لهذه المدارس، إلا أنها ضمت عدداً لا بأس به من التلامذة المسلمين، وعًرفت برفعة مستواها خصوصاً في العلوم العربية.
التحق زريق بالجامعة الأمريكية في بيروت، وبدأ تخصصه بالرياضيات، إلا أنه تحول إلى التاريخ بعد وقت قصير بتشجيع من بعض أساتذته الدينيين. وكان قد شغر حينذاك كرسي التاريخ العربي، فرُشح زريق لإتمام دراسته التخصصية في الولايات المتحدة في هذا الموضوع، إعداداً له لتولي هذا الكرسي من بعده. وبعد أن تخرج زريق بدرجة بكالوريوس في الآداب بامتياز عام 1928، سافر إلى الولايات المتحدة حيث نال الماجستير من جامعة شيكاغو في عام 1928 والدكتوراه من جامعة برنستون في عام 1930.
توزعت الوظائف التي احتلها زريق في حياته العملية بين التدريس الجامعي والعمل الأكاديمي الإداري والمناصب الدبلوماسية. فلقد عُين بعد تخرجه مباشرة أستاذاً مساعداً في التاريخ بالجامعة الأمريكية في بيروت، ورُقي إلى أستاذ مشارك في العام 1942، وعمل زريق بعد الحرب العالمية الثانية ولفترة ثلاثة أعوام (1945ـ 1947) في السلك الخارجي السوري حيث خدم كمستشار أول، ثم كوزير مفوض في المفوضية السورية بواشنطن، وكان خلال ذلك عضواً مناوباً في مجلس الأمن.
عاد زريق بعد تجربته القصيرة في الميدان الدبلوماسي إلى الحياة الأكاديمية، حيث التحق بالجامعة الأمريكية من جديد وعُين أستاذاً للتاريخ، ونائباً لرئيس الجامعة. وفي العام 1949 أصبح رئيساً للجامعة السورية، وبقي في هذا المنصب حتى العام 1952. وأعيد تعيينه في ذلك العام نائباً لرئيس الجامعة الأمريكية، وعميداً للكليات إلى أن أصبح رئيساً للجامعة بالوكالة بين الأعوام (1954ـ 1957). وحصل في عام 1956 على لقب أستاذ ممتاز للتاريخ، وعلى لقب أستاذ شرف في عام 1976، كما أنه خدم كأستاذ زائر في جامعة كولومبيا عام (1965)، وجامعة جورج تاون (1977)، وجامعة يوتا (1977).
إلى جانب وظائفه الرسمية المتعددة، نشط زريق في العديد من المنظمات الثقافية الإقليمية والعالمية، واحتل مناصب رفيعة في العديد منها: فهو عضو مراسل في مجمع اللغة العربية في دمشق، وعضو مؤازر في المجمع العلمي العراقي، وعضو فخري في الجمعية التاريخية الأمريكية، وكان عضواً في المجلس التنفيذي لليونسكو (1950ـ 1954)، وعضواً في المجلس الإداري للهيئة الدولية للجامعات (1955ـ 1965)، ورئيساً لجمعية أصدقاء الكتاب في لبنان (1960ـ 1965)، ورئيساً لمجلس أمناء مؤسسة الدراسات الفلسطينية منذ أن أسست هذه المؤسسة في عام 1963. وهو منذ عام 1979 من أعضاء مجلس أمناء جامعة قطر.
كما شملت نشاطات زريق الثقافية المميزة عضويته في الهيئة الدولية لكتابة التاريخ العلمي والحضاري للإنسانية، التي رعتها منظم اليونسكو (1950ـ 1969)، ورئاسته للجنة الخبراء التي قامت بتقديم المشورة للحكومة الكويتية حول إنشاء جامعة الكويت. وتقديراً لنشاطاته فقد قامت الحكومة السورية بتقليده وسام الاستحقاق (درجة ممتازة)، وقلدته الحكومة اللبنانية وسام المعارف (درجة أولى) ووسام الأرز الوطني (درجة كوماندو) ومنحته جامعة ميشغان دكتوراه فخرية في الآداب.
أتقن زريق اللغتين العربية والإنجليزية وكتب بهما، وأجاد الفرنسية وألم بالألمانية. إلا أن الحيز الأكبر من كتاباته كان بالعربية، وهي اللغة التي يبدو أنه كان يفضل دوما الكتابة بها. وهذه إحدى ميزات المفكر قسطنطين زريق، فعلى الرغم من أنه قضى جميع مراحل دراسته الجامعية في مؤسسات أجنبية، وارتبط خلال معظم سنوات العمل في حياته بمؤسسات تربوية أجنبية، إلا أنه اختار أن يخاطب باستمرار القارئ العربي، وأن يتوجه في كتاباته إليه، وأن تكون المواضيع التي يختار الكتابة بها ذات صلة مباشرة بالأوضاع السائدة في الوطن العربي وبمستقبله.
يُعتبر زريق من أبرز المفكرين القوميين، هذا التيار الذي بدأ ينمو منذ بداية القرن العشرين، بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية، حيث التف حول زريق مجموعة من القوميين الذين عُرفوا بجماعة الكتاب الأحمر.
فعلى يده دخلت مبادئ (الكتاب الأحمر) وهي مبادئ قومية إلى الجامعة الأمريكية في أوائل الثلاثينات، واستجاب لها عدد غير قليل من الطلاب العرب من بلاد الشام والعراق والجزيرة خاصة. ومن هذه المبادئ التي جاءت في كتابه (الكتاب الأحمر):-
ـ المادة الأولى: ما هي الفكرة العربية؟ ـ ما هي القومية العربية؟ ـ من هم العرب؟ ـ ما هي البلاد العربية؟ ـ لزوم العصبية العربية وحدها. ـ وحدة الهدف في الجهاد. ـ الاختلاف والتنوع في أساليب الجهاد. ـ التنظيم هو الذي يؤلف المساعي القومية ويوجهها. ـ تحتيم الانتظام والجهاد.
كما وتبنى قسطنطين زريق في كتاباته عدداً من المفاهيم الأساسية التي أمدته في مجموعها بإطار ذهني أضفى على نتاجه طابعاً مميزاً. وأهم هذه المفاهيم ثلاثة: الحضارة والعقلانية والقومية. وقد اعتمد زريق أول هذه المفاهيم الثلاثة منطَلقاً لمعالجة كافة قضايا المجتمع العربي، التي تطرق إليها واعتبره (الحيز الذي تنبثق منه وتنتظم فيه مختلف القضايا القومية والإنسانية). وأمد مفهوم الحضارة فكر زريق ببعده الشمولي وأتاح له النظر إلى نواحي المجتمع المختلفة كوحدة مترابطة متفاعلة، حيث يعسّر فهم ناحية منه دون الرجوع إلى النواحي الأخرى.
كما استطاع زريق أيضاً باعتماده لمفهوم الحضارة أن يبلور أفكاره ضمن إطار إنساني وعالمي، وأن يخرج من مزالق القوقعة الذاتية التي طغت على العديد من مسارات الفكر العربي الحديث. فمفهوم الحضارة هو معيار للمقارنة بين المجتمعات، وقياس مدى تقدمها ورقيها وللحكم على الأمور، وللدلالة على وحدة العنصر البشري ووحدة مصيره في الماضي والحاضر.
وأما بالنسبة إلى العقلانية، فلقد احتل هذا المفهوم في فكر زريق مكانة رئيسية وشكل الواسطة التي أراد زريق لها أن تكون معبر العرب إلى الثقافة الحديثة، واعتمد في هذا المجال تعريفاً للعقلانية يتألف من عنصرين هما العلم والخلق... وأخيراً حاز مفهوم القومية على الجانب الأكبر من اهتمامات زريق. فلقد نظر زريق إلى المسألة القومية على أنها مسألة الحياة العربية، وعمل جاهداً على بلورة الشعور والتربية القوميين. ومع أنه لم يقدم في كتاباته على تطوير فلسفة قومية متكاملة، إلا أنه نجح في إثارة هذه القضايا ولفت أنظار المفكرين العرب الآخرين إلى ضرورة التصدي لها ومعالجتها ولعل من أهم مساهماتها في هذا المجال الكيفية التي عالج بها قضية فلسطين والتي اعتبرها محك النهضة العربية. فلقد استطاع زريق من خلال كتاباته المتعددة في القضية الفلسطينية أن يثري الفكر العربي ويحفزه على اعتماد منطلقات جديدة في النظر إلى قضاياه القومية.
في شهر أيار من عام 2000م توفي قسطنطين زريق مخلفاً وراءه قائمة من الكتب والأبحاث:
ـ الوعي القومي (1939).
ـ معنى النكبة (1948).
ـ أي غد (1957).
ـ نحن والتاريخ (1595).
ـ هذا العصر المتفجر (1963).
ـ في معركة الحضارة (1964).
ـ معنى النكبة مجدداً (1967).
ـ نحن والمستقبل (1977).
ـ مطالب المستقبل العربي (1983).
ـ من بعيد ومن قريب (مقالات وخطب ـ 1994).
ـ كرّاسي الكتاب الأحمر.
وقد جمعت هذه المؤلفات تحت عنوان (الأعمال الفكرية العامة للدكتور قسطنطين زريق) وصدرت عن مركز دراسات الوحدة العربية في أربعة مجلدات في بيروت عام 1994، وله الكثير من المقالات التي نشرت في العديد من المجلات.
المراجع:-
ـ الدكتور صالح زهر الدين (رجالات من بلاد العرب، المركز العربي للأبحاث والتوثيق، بيروت، طبعة أولى 2001، ص (665ـ 679).
ـ تحرير أنيس صايغ (قسطنطين زريق 65 عاماً من العطاء، مكتبة بيسان للنشر والتوزيع والإعلام، بيروت، طبعة أولى 1996، ص(133ـ 135) (168ـ 190) (68ـ 70).
واستكمالاً للفائدة نضع بين يدي القارئ تلخيصاً موجزاً للمبادئ التسعة الواردة في الكتاب الأحمر ليستفيد منها إذا شاء، وسيشعر القارئ أن في كتابات هذا المفكر نزعة منهجية واعتدال سواء اتفق معه في الأصول أو خالفه فيها:
المادة الأولى: ما هي الفكرة العربية؟
الفكرة أو القضية العربية تعبير مطلق عن الحركة التي يقوم بها العرب لتحرير أنفسهم من الاستعمار والاستعباد والفقر والجهل وسائر ضروب الوهن، على أن يؤلفوا شملهم ويتحدوا في دولة عربية قومية قوية متحضرة، ليصونوا بذلك كيانهم المادي والمعنوي، ويرفعوا شأنهم ويستمروا في تأدية رسالتهم الإنسانية والحضارة العالمية.
ـ المادة الثانية: ما هي القومية العربية؟
هي مجموعة الصفات والمميزات والخصائص والإرادات، التي ألّفت بين العرب، وكونت منهم أمة كوحدة الوطن واللغة والثقافة والتاريخ والمطامح والآلام والجهاد المستمر والمصلحة المادية والمعنوية المشتركة. والقومية العربية هي محل تقديس وفخار عند العرب لأنهم تميزوا عن سائر الأمم، وامتازوا عليها خلال العصور، وبها نهض مجدهم الحاضر وكفل لنفسه النمو والبقاء إلى الأبد.
ـ المادة الثالثة: من هم العرب؟
العرب هم من كانت لغتهم العربية، أو من يقطنون البلاد العربية وليست لهم في الحالتين أية عصبية تمنعهم من الاندماج في القومية العربية.
ـ المادة الرابعة: ما هي البلاد العربية؟
البلاد العربية هي جميع الأراضي التي يتكلم سكانها اللغة العربية في آسيا وأفريقيا، أي هذه الأراضي الواقعة في الحدود التالية: من الشمال جبال طوروس والبحر المتوسط، ومن الغرب المحيط الأطلسي والبحر المتوسط، ومن الجنوب بحر العرب وجبال الحبشة وصعيد السودان والصحراء الكبرى، ومن الشرق جبال تشتاكو والبختيارية وخليج البصرة. أما الجزر القريبة من الشواطئ العربية والتي يسكنها العرب فهي عربية.
ـ المادة الخامسة: لزوم العصبية العربية وحدها.
يحرّم العربي العصبيات التي تضعف العصبية العربية كالعصبيات الطائفية والعنصرية والطبقية والإقليمية والقبلية والعائلية وأشباهها. والعربي يعلم أن الأديان السماوية ليست في ذاتها عصبية دنيوية، فهو بذلك يحترمها ولا يرى فيها ما يحمله على إنقاص ولائه التام للقومية العربية.
ـ المادة السادسة: وحدة الهدف في الجهاد.
يؤمن العربي بأن هدفه القومي في أصله وطبعه ومنتهاه واحد لا يتجزأ في الوصول إليه، وبأنه إلى هذا الهدف يجب أن توجه كل الجهود الفردية والجماعية. فالعربي يرى أن المساعي القومية التحررية التي يقوم بها العرب في هذا القطر وذاك من أقطارهم لا يجوز أن تُؤدى إلا إلى التحرر والتوحد الشاملين. فلكل عربي بل عليه أن يعمل في كل أرض عربية بما يعجل تحقيق هذه الغاية ويوطد أركانها ويكفل بقاءها.
ـ المادة السابعة: الاختلاف والتنوع في أساليب الجهاد.
ليست أقطار العرب اليوم سواء في العلم والجهل والغنى والفقر أو السيادة والاستعباد. فلذلك جاز أن تتنوع أساليب الحركات السياسية والاجتماعية فيها، وأن تختلف باختلاف القطر، على أن يكون بينها جميعاً ضابط يؤلفها وينسقها ويوجهها توجيهاً يضمن فعلها، في إيصال الأمة العربية إلى هدفها القومي العام بأقل التضحيات وأقصر زمن.
ـ المادة الثامنة: التنظيم هو الذي يؤلف المساعي القومية ويوجهها.
فهو على ذلك جزء من أجزاء العقيدة ووجه من وجوهها، ولا يجوز أن يصدر إلا عن وحي الإرادة العامة. وهذا التنظيم يقوم على ضبط الخواطر والنزعات والإرادات الشخصية الفردية أو القطرية الإقليمية، عند العرب وتحصين القوي منها وتسخيرها لخير القضية العربية الشاملة.
ـ المادة التاسعة: تحتيم الانتظام والجهاد.
قعود الفرد العربي واحجامه عن الانتظام في مواكب الجهاد عجز وضلال يشبهان الخيانة، مثله الإخلال بالنظام بعد الانتظام، وفي ميسور كل عربي أن يجاهد بيده وبنانه، فإن لم يستطع فبلسانه وبيانه فإن لم يستطع فبقلبه وجنانه، ولا سيما حين تكون الأمة في ساعات العسرة أو الخطر. ويحدد الكتاب الأحمر أهداف القومي العربي وواجباته وأمانيه إلى أن يصل إلى المادة الرابعة والأربعين فيقول:
(الدولة العربية دولة قومية لا دولة دينية، والأديان عندها هي سبيل المرء إلى خالقه في العبادات، فهي مصونة ومحترمة ومقدسة وفق ما يرد عنها في القوانين).