لم أتوقّع أن يتحوَّل وجودي في كابول، ليلةًً قبلَ ليلةِ الميلاد، إلى مدعاة لفرحٍ آدمي وسرور إنساني. إلى كابول دعاني الشاعر علي هيبي لأشارك في ندوة عن الثورات في العالم العربي وتحديدًا ما يجري في سوريا. ندوة أقامها فرع الحزب الشيوعي وشارك فيها سكرتيره العام الكاتب محمد نفاع. قبالة بضع عشرات من الكابوليين، وزهرة واحدة ذكّرتنا بالربيع، وقف عليٌّ، وبهيبة تليق بخطيب يألف الوقوف على منصة تهابه ويحترمها، رحّب بضيوف كابول وبجميع الحاضرين. بعد الترحيب، وبجدٌية خالطَتْها دعابة يجيدها، أعلن أنّ اسمه علي هيبي من كابول يهنئ المسيحيين بعيد الميلاد وبرأس السنة الميلادية. علي، لمن لا يعرفه، رجل يختزل وسامة الشرقي، أسمر كحبة تمر، يميل إلى طول محبب كعلو قصيدة، وقفَ، وببشاشة وجهٍ واثق، أكّد أنّه يفعل ذلك محتجًّا ومعارضًا لما أفتى به بعض الشيوخ، محرّمين ومكفّرين من لا يسمع ويتّعظ. في لحظة نور التفت صوبي ومدَّ يدَه مهنئًا بالعيد. تشابكت الأيدي وحف العنقُ العنقَ فكان ما يجب أن يكون، وما كان دومًا، حين كان عقلاء القوم قوامين على الدنيا والدين. ربما سيعجب البعض لذكري مثل هذا الأمر، وربما سيستهجن بعضكم ذلك، فالذي فعله علي طبيعي ولا غرابة فيه، ولذا فهو حدث هامشيّ لا يستوجب الذكر والكتابة . أمّا أنا فلم أحسبه إلّا حدثًا هامّا ومثيرًا، وعندي كان بمثابة عيد حل قبل ميعاده فخصّني وأعزّني وأفرحني أيما فرح. فنحن نودّع عامًا يصح أن نسميّه عام "الفتاوى"، فكيفما وليّتَ وجهَك لفحتك نار فتوى أخرجها لتوّه من فرنه خبّاز يعجن كلام الرب، منزوعَ الخميرة، فيوزعه زادًا معلبًا جاهزًا على العباد. عام الفتاوى ينقضي، لكنّه يُبقي غمامًا من غبار سام وقاتل يقطر من حين لآخر فيردي ويهلك. ما قاله عليّ كان طبيعيًا في شوارعنا وحاراتنا. كان وتبدَّل. فنحن اليوم نعيش في أصداف، إليها نأوي ونتقوقع ولا يهمّنا ما يجري تحتها أو يدب فوقها، ولا ما يُحرَق بجانبها على مرمى طنين واحد وأنين. عام الفتاوى كان عام الفرقة وشهوة الدم، عام استقوى فيه الأقوياء فجنَّدوا القويّ الجبار إلى صفوفهم فسهّل لهم العَصِي وسوّغ لهم المحظور وبارك في بطشهم. عام تجلّت فيه فلسفة البؤس وطغى عليه بؤس الفلسفة. عام تقوقعت فيه النفوس والقلوب والعقول وكلُّ شيء كبير قُزِّم وحشر في ذات الصدفة. أسئلة كبيرة وصغيرة يجيب عليها صغار نفوس، على حافة الجهل يراوغون بما حفظوه من تعاليم شُوِّهَت وتلك التي ما عادت تلائم عصر أمواج ما عرف السالفون منها إلّا ما أغرق مراكبهم. فرحتُ بسلامِك يا علي، فمعًا أعلنَّا وجاهرنا بمعارضتنا كل من يريد أن يجنَّدَ ربًا ليخلفك مع أخيك، أخ لم تلده أمّك ولم يلصق به دين كدينك، لحظةَ قطعت القابلة حبل سرّته الذي كان مربوطًا في سرّة نبيّ غير نبيّك. فرحتُ، ومعي جميع من حضر هناك، لأن مثل هذا الصوت يجب أن يبقى عاليًا مدويًا، لا يخشى ولا يخجل، لا يَكِلُّ ولا يتأتئ. فمن سنوات خَفَتَ صوت هذا الفرح وعلا صوت الشخير والنفير. منذ زمن يا أخي ونحن نحاول تكذيب ما نسمعه وما نلمسه وما نواجهه، ومن لا يكذّب يستسخف الحالة ويهمّشها، إمّا من فرط اعتداد بقوة تخور وإمّا عن ضعف وجهل يمور. فحينما بدأت مجموعة صغيرة هامشية في قرية ما تدعو وتحث جماعتَها على عدم مشاركة الآخرين أتراحهم وأفراحهم، لأن ذلك من الكفر والكبائر صمتت الأكثرية وخرست العقول وتقوقعت النفوس، فما كان إلٌا وتمادت تلك المجموعة وزاد تأثيرها وتنامى من شارع لحي لبلدة لمنطقة، إلى أن أصبح شائعًا وقاعدة اجتماعية مقبولة. ما كان على الهامش أصبح في القلب وفي صميم الكبد. إنها هيمنة الحفَّار وصاحب الصنّاجات، هكذا تبدأ وعندما تتمكن لا أحد يسألها كيف هيمنتِ يا هيمنة؟! إنّه عام "الفتاوى" تتداعى من مصالح وجهل وعمالة عند أعداء الرب/السلام/الرحمن/المحب. فبأي صوت ينادي ذلك "الراب" حينما يسخّر ربّه ليشرح كيف ومتى يحلّ قتل "الأغيار" على كهولهم وأطفالهم؟ وبأي صوت ينادي مأفون "غينغيريتشي" حينما باسم ربّه يستوحي استعارات الشيطان ليستعدي قومًا ويتمنى أن يمحوه. وبأي صوت ينادي أئمة بمقاطعة جنازات وأعراس وهموم أبناء قريتهم من المسيحيين لأن طقوسهم بدع ورموزهم رجس من الشيطان؟!. ما سيق أعلاه سيق من باب التمثيل فالقضية أشمل وأوعر وأخطر. لقد كان العام عامَ الحُفَر، حفرها جميع هؤلاء المغرضين، فباعدت بين الأشقاء والإخوة والجيران وأحفاد أيام البساطة والإيمان الحق. إيمان بالله العلي وبدين يربط الواحد منهم بربه ولا يقطع حبل مودَّةٍ وصلة مع جاره وابن بلده وأخيه في الإنسانية والحياة . ما سيق أعلاه هي حالات تعيشها قرانا وفيها تتفشى من يوم إلى يوم. يتحدثون عنها في المجالس بريبة وحذر وخشية فتتمادى. آثارها حتمًا ستكون هدّامة لكل مآثر جماهيرنا، فمن يحتمي بطائفة ومن يلجأ لسقف عائلة لن يأمن رعد السماء وبرقها ولن يبعد عنه نارَ من يؤمن انه ابن الطائفة الناجية وسينجو وحيدا دون غيره فالرب ربُّه لا لغيره. أفرحني اللقاء مع الكابوليين، فهناك كان أهل الزمان الجميل وبناة مستقبل أجمل، وكان علي بقامته التي تشي بشباب، كذاك الذي حلمت به أمهات إسبارطة ولكنَّه يتبسَّم تمامًا مثلك ويدمع مثلي. يشبه من كانوا في القاعة ويشبه كذلك أخي. هناك في تلك القاعة المتواضعة الدافئة بدأت، مع رفاقي/إخوتي، وداعَ عامِ الفتاوى، وشرعنا في كابول الجليلية نحتفل بالميلاد، الذي سيسبقه حتمًا، ككل ميلاد، وجع ومخاض وحفنة من دمع وعرق.