رام الله هي بمثابة المدينة المفقودة لشباب وصبايا فلسطين الداخل – فنحن (وفقا لمقولة الباحثة منار حسن) المتمدنين بلا مدينة. فالناصرة، كغيرها مما يعتبر اليوم مدن فلسطينية في الداخل، ليست مدينة بأي معنى من المعاني غير ربما بعدد سكانها، فنسيجها الأجتماعي عائلي ومتراص، بعض أحيائها تطل عليك بمعماريتها كمخيمات لاجئين، بلدتها القديمة مهجورة، ومجمل الخدمات التي وفرتها بالسابق أفرزت الى البلدات اليهودية المحاذية. اما الأجزاء العربية المتبقية من اللد عكا ويافا فهي اليوم بمثابة أحياء فقيرة تعيش على هامش المدن اليهودية وكل ما تبقى لنا هو قهوتين مسرح وشط صنعنا منهم في حيفا مدينة.
في السنوات الأخيرة "مدت أجر" اهل الشمال الى رام الله ماشاء الله، وبضمنهم انا. "الله يخلف" على شارع رقم 6 بالرغم من كل أشكالياته أحسن الى اهل الشمال بانه قربهم من القدس (المنسية) ومن رام الله (العاصمة!!!). من الناصرة الى قلنديا ساعة ونص بالكثير، فأصبحت قلنديا الى الناصرة أقرب من تل ابيب. شارع رقم 6، شارع أجرة، (مش رخيص ابداً)، وبعكس شارع الشط المكتظ بالحركة والمجمعات التجارية، شارع رقم 6 عريض وفاضي وتخلو جوانبه من أي شي غير قرى المثلث التي صودرت اراضيها في سبيل شق الشارع واضحت معزولة عن الشارع ومعزوله بواسطته.
الأثير الفلسطيني المنبعث عن راديو اجيال وترددات أذاعية اخرى يهيئ لك نفسيتك خلال السفر ويحضرك للدخول الى "الوطن"، وخلال الطريق تترصد قمم أشجار الكينا ورؤوس عواميد الكهرباء المترائية لك من خلف الجدار الفاصل المحاذي للشارع في منطقتي طولكرم وقلقيلية، وفي الأونة الأخيرة تحتاج الى يقظة خاصة لكي لا تغفل عن الجدار "فمع الوقت بطلت تشوفوه غطوه كله بشجر".
شارع رقم 443 – "انت بالضفة بس كل شي حواليك بقول انك بأسرائيل. مودعين على اليمين ومودعين عيليت على الشمال وبيت غور الفوقا والتحتا والطيرة مسييجين وما الهن طريق. بتزيد من سرعتك بشكل كبير وبتعلنها ثورة، ثورة على قانون واحد، قانون السير، وكانك بهاي الثورة بتذكر حالك واللي حواليك انك مش بأسرائيل وانه قانونهن هون مش ساري عليك. وعلى الأشارة الضوئية بتعطي شمال، كل السيارات بتابع طريقها للقدس وانت بترفع راسك بزاوية منفرجة وبتستنى الأشارة الخضراء، بتنفش عضلاتك وبتفوت مثل ابو زيد الهلالي، وعلى الدوار بتكتشف انه في حواليك كمان شي الف أبو زيد الهلالي كلهن مثلك سيارات مع لوحات اسرائيلية صفراء نافشين عضلاتهن وبحاشرو فيك عن الشمال وعن اليمين".
"بتدخل حاجز قلنديا وما حدا بحكي معك، وبتتنفس كأنك ما تنفست لحد اليوم وبتوسع رياتك وبتحس انك طلعت خارج الجدار مش دخلت الى حصاره. بتصير قلنديا مجرد حاجز وبتنسى انه قلنديا هي بلد ومخيم لاجئين وبتبداء رحلتك ووجهتك الى رام الله الوطن المفقود. اول شيئ بتلاحظه وبصير أهم شي بالنسة الك لفترة بعتمد طولها عليك انه كل شي بالعربي، بس كل شي يعني كل شي، يعني كل شي كل شي كل شي كل شي كل شي بالعربي، كأنه ولا مرة بعمرك بحياتك شفت عربي (هيك بصيبنا كمان بعمان)... وبتصير مثل الولد الصغير تقراء اللافتات وكل لافتة كانها أنتصار جديد، مع الوقت بتفهم انه انفعالك الشديد هذا مش نابع من الافتات العربية انما من انعدام العبري من مجال الرؤية المسترد تبعك، وهيك بتصير المحافظة على نقاوة اللغة والتحفظ من الكلمات العبرية هي أهم انتصاراتك اللي بتقمع فيها غرائزك المشوهة وبتبني فيها غرائز طبيعية من جديد، وان نفذت للمشهد بشكل أو باخر كلمة عبرية بتمتعض وبتفّ وبتحس انها عم بتضييع منك فلسطين".
فقاعات من الرومنسية تحملنا الى رام الله كفقاعات الرومنسية اللتي تحمل الحجاج الى الاراضي المقدسة. رومنسية تحجب عنا الواقع وتنسج لنا كل ما يحلو للخيال. "فان ضعت برام الله شي يوم، متاهتك بتتحول الى بوصلة وغربتك بتصير مرسى وبمدينة ما بتعرف فيها حدا، كل الناس مهما كانو غرباء عنك بصيرو عمك وخالتك وخيك وأختك، وبعد ما لقيت الطريق بتحس انك حابب تبقى ضايع، فلغتك بضياعك هذا بالرغم من لوحتك الصفراء بتحول كل الناس لأهلك. لكن الفقاعات الرومنسية هاي بتتفرقع واحدة ورا التانية ومع الوقت بتبدأ تستوعب انه رام الله هي بس رام الله، وانك لما انت ضايع حتى لو كل الناس أهلك في نهاية الموضوع انت ضايع... فما اجيت كل الطريق من الناصرة الى رام الله حتى تحضر أخر عشر دقائق من المحاضرة اللي اجيت خصيصا على شانها وتكييف على حالك انك ضعت برام الله.
عمليا النزوح عن الرومنسية هو بداية تسجيل الهزائم، ومن اللحظة التي أعلنت فيها هزيمتك الاولى يسهل تسجيل الأهداف في شباكك. فرام الله هي مدينة نبحث فيها عن أمور نفتقدها، مثلاً، كبحثي المتلهف ذات يوم في مكتبة جامعة بير زيت عن "كتب خاصة أومصادر لا تسنح لي فرص الوصول اليها"... وأخيرا أنتهي الأمر بصديقي عُمر بتذكيري بأن ما ابحث عنه من كتب أو مصادر غير موجود، "فكل شي خاص أخذوه... تجدينه محفوظ في المكتبات والأرشيفات الأسرائيلية". وبهذا سجل عُمر ثاني هزائمي المعلنة بل انها لهزيمة مضاعفة فما أبحث عنه غير موجود بل والأنكى من ذلك فانه موجود في مهجري الدائم في سراديب المكتبات المفتوحة امامي اللتي لن تشفع لي بها لغتي أن تهت باي منها ولن يخرج لمعونتي لا عم ولا خالة ولا أخ ولا أخت فهم راقدين ساكنين بين أوراقها وفي صناديق أراشيفها.
خرجت وعُمر من الجامعة تفاديا لخسائر أخرى مهددة بسهام الواقعية. ووجدنا طريقنا الى مقهى لطيف – رام الله خالية من العبرية ويجدر بدقائقي فيها ان تكون خالية من العبرية أيضا – وها انا في محاولة للتعالي على غرائزي اللغوية فالتبست علي الأسماء الاتينية بين الماكياتو واللطة وغيرها ورست بي الأمور على اسبرسو مع حليب - "نعم هذا هو ما اريد اسبرسو مع حليب" فما كان من النادل غير ان نظر الي وسألني على عجلة من أمره "يعني هفوخ؟" فاجبت مطأطأة الرأس وها قد سجل الهفوخ في شباكي هزيمة اخرى "أه... هفوخ...".
من جعبة فقاعاتي الرومنسية وربما آخرها الى الأن هي فقاعة قلنديا، قلنديا الحاجز وليس البلد أو المخيم. "بقلنديا بتفوت ما حدا بيسألك شي، فوضى وازمة سير كثير ومع الوقت بتفهم انه مثل ما بحاشروك في الشوارع العربية بالداخل هيك بحاشروك بقلنديا. بالفوتة ما في قانون، وبالطلعة بتقف بالدور واذا الدنيا ليل بتطفي الضؤ وبتنتظر، كل ما سمعت صوت خفي بصرخ وبقول "تتكدم تتكدم" بتقدموا السيارات بنظام كل ثلاثة مع بعض، اذا سيارة واحدة فاتت بالغلط بتسمع نفس الصوت بصرخ وبقول "تخزور اخورا تخزور اخورا". هدول نفسهن الناس اللي كانو يحاشروك الصبح ونافشين اسا صافين بالدور وساكتين، كلهن لوحات صفراء. ولما بيجي عليك الدور بتعطي هويتك للجندي او الجندية بتتطلع فيها وبتطلع فيك وجنود تنين بكون ماسكين سلاحهم ومستعديين للطخ. أذا معك ناس مش قرايب من الدرجة الأولى بينزلو من السيارة وبيمرو من معبر المشاه. بعدين انت بتنزل من السيارة وبتفتح الصندوق وان ما معك شي بقولك الجندي "ساع". لما فش ضغط على الحاجز بتنتظر بالدور حوالي 20 دقيقة ولما في ضغط ممكن تنتظر ساعة أو اكثر. غير قلنديا في طرق تانية حتى تطلع من رام الله، بما أنه لوحتك صفراء فممكن تطلع بدون حواجز عن طريق المستوطنات بس بتلف شي ساعة لتطلع وأن ضعت لا في عمي ولا خالتي ولا خيا ولا خيتا... وممكن كمان تطلع عن طريق حزمة حاجز صغير بعد قلنديا باتجاه القدس بطول الطريق شوي بس بتمر فيه بدون ما توقف وما في عليه تفتيش".
لسبب أو لأخر لحد اليوم أصريت على الخروج عن طريق قلنديا... وكأنه مروري بقلنديا يعزز فلسطينيتي والتنازل عنه فيه طعن فيها... كأنه قلنديا بتعوض عن الحجر اللي ما رميته وعن الحصار اللي ما عشته أو عن الرصاص اللي ما اصبت فيه، كأنه فلسطينيتي منقوصة بدون هاي المواجهة، المواجهة الوحيدة الي مع جنود الاحتلال، المواجهة الوحيدة الي بقدر فيها اتفرس بوجوههم وأتفحصها عن قرب وأتسأل قبل ما أشوفها بتخوف هل راح اشوف فيهم حدا بعرفه؟ هل فيهم حدا من زملائي او من أولاد معارفي أو من الناس اللي بشتغل معهم؟! هل راح يكون فيهم حدا من طلابي أو طالباتي؟!!
في نهاية المطاف أسقطت قلنديا هي أيضاً ما فرضتُ عليها من مواجهات وتحديات رومنسية لصالح طريق حزمة، اهون وأقصر وتخلو من المواجهات العبثية، ومثلها مثل ال"هفوخ" و"الكتب الخاصة" وغيرها من رومنسيات مبنية صوبت قلنديا الى شباكي سهام الواقعية وسجلت هدف تلو الأخر وأعلنت بهم هزيمتي مرة أخرى لأرى رام الله بصورة أكثر واقعية - مدينة مركزية لا تمثل الا ما فيها وكغيرها من المدن المركزية فيها الحسنات وفيها السيئات وليس كل ما بها عذبا جميلا.
وما زلنا نعشق رام الله برومنسية ونطوق اليها فهي المدينة حيث لا مدينة.
© حقوق النشر محفوظة
نسرين مزاوي – ناشطة نسوية، باحثة أجتماعية ومستشارة بيئية. حاصلة على الباكلوريوس في علم الأحياء والماجستير في الإدارة البيئية.