يطمَحُ الباحثون في علم الاجتماع وغيره الوصول إلى "جذور المشكلة" ليتسنّى لهم ولآخرين طرح حلول لها. إنّ الاكتفاء بالأسباب التي تطفو على السطح واجتناب الغوص في الأعماق يسفران عن نتائج "واهية" وأحيانًا "مغلوطة" التي تؤدّي إلى طرح حلول "مؤقّتة" تتغيّر وتتبدّل بحسب الظروف. على سبيل المثال، قد يعتقد بعضكم أنّ مشكلة العنف في المجتمع العربيّ سببها تقصير الشرطة في إلقاء القبض على الجناة، وإنّ الحالة السيّئة التي آل إليها الحيّز العام هو انعدام المخالفات التي تُحّرر ضدّ من يعتدي، وأنّ المواطنين العرب لا يدفعون الضريبة البلديّة لعدم خشيتهم من "سوط" السلطة المحليّة. الحلّ الذي يتبادر إلى الذهن لأولّ وهلة هو إنزال العقاب على "المخالفين والمتملصين"، لكنّ الأبحاث تثبت أنّ "العقاب" ليس إلّا وسيلة لإجبار الناس للامتثال للقانون، ولم ولن يكون بديلًا لعمليّة "التوعية" التي تعمل على المباني الذهنيّة للبشر.
من السهل عزو العنف للوضع الاقتصاديّ أو للهوّات القائمة بين الطبقات المجتمعيّة فقد قال في ذلك الصحابي، أبو ذر الغفاري، وهو رابع من دخل الإسلام (توفّي 32 هجريّة)، "عجبتُ لِمَن لا يَجِد القوتَ في بيتهِ ألّا يخرجَ على الناسِ شاهرًا سيفه.." أي أنّ انتزاع وسائل العيش من الأغنياء هو أمر مباح، وهذا وإن بدا لبعضكم أمرا عادلًا فهو دعوة غير مباشرة لاستعمال العنف من أجل البقاء. هذا طبعا لا يحدث في أرض الواقع لوجود "اتّفاق" غير رسميّ يضمن تأمين لقمة العيش للفقراء وزيادة الأرباح للأغنياء. لهذا السبب نرى أبا ذر الغفاري "يعجب" من عدم مسارعة الفقراء بإشهار السيف على الأغنياء لأنّ جذور العنف ليست اقتصاديّة أو على الأقل ليست اقتصاديّة فحسب، وأنّ لها منابع أبعد وأعمق تعود إلى عقليات منغلقة وَمُسَلّمات لا جدال بها.
في كتاب "العالم ومأزقه" للكاتب علي حرب وهو كاتب ومفكّر علمانيّ لبنانيّ، كتب العديد من المؤلّفات كـ "نقد النصّ" و"خطاب الهويّة" و"تواطؤ الأضداد" و"الإنسان الأدنى" وغيرها يشير إلى وجود ثمانية منابع للعنف وأوّلها هو "الألوهة" فحسب رواية الخليقة طُرد إبليس من الجنة لأنه اختار "الجدال" مع القوّة الإلهيّة وأبى أن يسجد لها. يقول حرب "تلك بداية العنف الرمزيّ الذي يقوم على التسليم أو التحريم..". وإبليس أعطي مُهلة إلى يوم القيامة "للتكفير" عن ذنبه، بينما نوّاب الله على الأرض والحاكمون بأمره يريدون تطبيق أحكامه هنا ومن غير مُهلة وبصورة دكتاتوريّة فآراؤهم لا تُناقش وأفعالهم لا تُعلّل. هذا التقسيم إلى أخيار وأشرار ومؤمنين وكفّار واستعمال القوّة لإلغاء الآخر هو بداية العنف. المنبع الثاني الذي يشير إليه حرب هو "تمجيد الأبطال" من المحاربين عن طريق التبجيل والاحتفاء وتخليد الذكر وغيرها. إنّ نسب لقب "البطولة" لمن قام بالقتل- قتل الغير أو قتل النفس ما هو إلّا مديح للعنف ومدعاة له. يقول حرب بأنّنا نستنكر العنف والعدوان في حين أنّه متأصّل في قيمنا الأخلاقيّة. القتل ليس بطولة بل هو ضرورة من أشنع الضرورات.
المنبع الثالث للعنف هو "الأصوليّة". الإنسان الأصوليّ يعتقد بوجود "أصل" ثابت ونهائيّ... يجسّد الحقيقة الأولى" التي تلزم الجميع ومن يرفض ذلك فهو باخسٌ ودونٌ ومن يتبنّاها فهو الأرقى والأحسن. الإنسان الأصوليّ يُلغي الأصول الأخرى وهو لا يستبعد فكرة التصفية الجسديّة والإرهاب ضدّ من يخالفه الرأي. المنبع الرابع هو "القداسة". تقديس الأشياء والأحجار والأشخاص والتفاني من أجلها واستباحة كلّ الوسائل من أجل الذود عنها او رفع شأنها بما ذلك استعمال العنف وخوض الحروب. بعض اليهود يقدّسون حائط المبكى ويحلمون بلمسه والبكاء أمامه حتّى لو اقتضى ذلك إلى تشريد آخرين وإبادتهم. من منابع العنف التي يذكرها أيضا حرب هي "النخبويّة الرسوليّة" حيث تقوم نخبة ثقافيّة اصطفائيّة ونرجسيّة بالتعامل مع أنفسهم وكأنّهم يجسّدون عقول البشريّة وضمائرها. هنالك من الشعراء الذين يعتقدون بأنّهم هم الذين خلقوا "الحرية" وهم حُماتها وبعض الفنانين يعتبرون أنفسهم المالكين الحصريّين لملكة الإبداع ورجال دين يتعاطون مع عملهم بوصفه رسالة إلهيّة أو إنسانيّة مع أنّه مجرّد وظيفة يجنوا من ورائها مكاسب مادّيّة ومعنويّة. المنبع السادس الذي يشير إليه حرب هو "الأحاديّة". صاحب العقليّة الوحدانيّة يرفض المعارضة والتضاد وشعاره في ذلك: من ليس معي فهو ضدّي ويجوز قمعه. لا تقتصر "الأحاديّة" على المذاهب الدينيّة وإنّما اندمجت بالأيدولوجيّات الحديثة التي طرحت نظريات نهائيّة ومبسّطة ولا مجال لجدالها. على سبيل المثال، الادّعاء بأنّ "لا حلّ إلّا بالوحدة أو بالاشتراكيّة أو بالديموقراطيّة..". عندما يُهيمن شعار واحد أو أصل وحيد أو نموذج أوحد يعمّ القمع والاستبداد ويُمارس العنف. المنبع السابع هو "الطوباويّة" حيث يسعى صاحب الفكر الطوباويّ إلى تطبيق المثل العليا والنماذج القصوى على الواقع وهذا مستحيل لأنّ الواقع ليس فردوسيّا ولا مجال لتطبيق تلك المثاليات إلّا بالعنف التي قد يتجلّى أحيانا بصورة عزلة وانزواء وتحميل الغير المسؤوليّة بالفشل والإخفاق. أمّا المنبع الأخير الذي لم ينسه حرب فهو المعاملة البشعة التي قام بها الإنسان على مرّ العصور للحيوان عن طريق إبادته أو تدجينه أو تسخيره أو تعذيبه بحجّة سدّ احتياجاته والاعتداء على الطبيعة بغرض بناء حضارته. من يظلم الإنسان يظلم الحيوان ومن يعتدي على الطبيعة يعتدي على الإنسانيّة ومن يقمع إنسان من غير عرقه يقمع إنسانًا من غير دينه ومن يقمع إنسانًا من غير دينه يقمع إنسانًا من غير مذهبه وهكذا.
باختصار، العنف هو عقليّة راسخة في أذهاننا منذ الخليقة وهو يجري بعروقنا وبدمائنا وبات جزءًا من معتقداتنا الدينيّة وعاداتنا الاجتماعيّة وآراؤنا السياسيّة فلا تُذهلوا من فشل السلطات والأهل والمختصّين في إيجاد حلول لهذه الآفة.