بفضل تكنولوجيا التصوير القوية والمتطورة جدا، تَحـقق تقدمٌ هائل في فـهم طريقة عمل الدماغ البشري. لكن هل ينبغي أن ينتابنا القلق من فتح عقولنا للفحص الخارجي؟ في إطار فعاليات أسبوع التوعية بالدماغ، شارك خبراء في مجال علم الأعصاب في مائدة مُستديرة بجنيف يوم الأربعاء 18 مارس الجاري لمناقشة الإنجازات المُحرزة على مُستوى تحرير الأسرار التي تجول في خواطرنا، والملابسات الأخلاقية لسبر أغوار عقولنا.
ومنذ 12 عاما يـُنــظم "تحالف دانا الأوروبي لعلوم الدماغ" أسبوع التوعية الدولي بالدماغ في أوروبا. وتهدف هذه الجمعية إلى مساعدة الجمهور على فهم أهمية هذا النوع من الأبحاث. وقد نظمت سبع مدن سويسرية هذا العام سلسلة من الفعاليات حول هذا الحدث من 16 إلى 21 مارس.
وفي الواقع، شهدت علوم الأعصاب خلال السنوات الخمس عشرة الماضية تطورات هائلة استفادت بشكل كبير من قوة ودقة تقنية التصوير بالرنين المغناطيسي (MRI). هذا ما أكده باتريك فويلوميي، مدير مركز علم الأعصاب بجامعة جنيف أمام 300 شخص احتشدوا في جامعة جنيف بهذه المناسبة.
وأضاف فويلوميي: "لقد أُحرِزَ تقدمٌ هائل في فهم الوظائف الخاصة لمناطق مختلفة من الدماغ، لكنني لا أعتقد أننا أمام مخاوف كثيرة في الوقت الـراهن"، موضحا في هذا السياق أن علماء الأعصاب باتوا يستطيعون بالفعل قياس نشاطات الدماغ المرتبطة بأنواع مختلفة من الذكريات، لكن التكنولوجيا مازالت بعيدة جدا عن فك رموز مشاعرنا الذاتية أو استخراج أفكارنا الباطنية.
عـمل استــكشــافي لقد تمّ لحد لآن استكشاف معظم مناطق الدماغ، كما تم توثيقها بشكل جيد، بحيث أصبحنا نتمتع بفهم أفضل للكيفية التي يتعرف بها النظام البصري لدى الإنسان على الأشياء والأشكال والوجوه، وللكيفية التي نتعرف بها على الأصوات والضجيج، وتصورنا واستجابتنا للمشاعر والإشارات الإجتماعية، مثل تعابير الوجه أو نظرات العين.
ومن مجالات البحث التي تعرف نموا كبيرا تصنيف أنماط بكسلات التصوير بالرنين المغناطيسي، بالإستناد إلى نوعية الصور التي يتم إظهارها.
في مارس 2008، استحدث باحثون في جامعة كاليفورنيا الأمريكية نموذجا لفك رموز المعلومات في الدماغ. وتمكنوا من التعرف على صورة مُحدّدة كان ينظر إليها مريض من ضمن اثني عشر مريضا آخر، وذلك بمجرد ملاحظة نشاط دماغ كل واحد منهم.
وبعد مرور عدة أشهر، ذهب علماء أعصاب يابانيون إلى أبعد من ذلك بعد أن تعرفوا أولا على صورة كان ينظر إليها شخص وهو مستلق داخل جهاز مسح التصوير بالرنين المغناطيسي، ثم أعادوا بناء الصورة على شاشة، لكن بأشكال هندسية بسيطة.
« التكنولوجيا مازالت بعيدة جدا عن فك رموز أو استخراج أفكارنا الباطنية »
باتريك فويلوميي، مدير مركز علم الأعصاب في جامعة جنيف الصوت والمكان وقال فويلوميي إن البحث في فك رموز استجابة الدماغ لكافة أنواع الضجيج والأصوات يزداد تطورا، مضيفا: "من الممكن التمييز بين أشخاص مختلفين وهم يتحدثون، من خلال التعرف على أصوات حروف العلة التي يستخدمونها وإيقاع الصوت، سواء كانوا يعبّرون عن الغضب أو الحزن".
وفي وقت سابق من عام 2009، نشر علماء بريطانيون في جامعة لندن دراسة حول الذاكرة المكانية. وتمكنوا في هذه الدراسة من التنبؤ بدقة بمكان شخص في محيط افتراضي فقط من خلال نمط نشاط في الجزء من الدماغ الذي يسمى بـ "قرن أمون".
وكانت هذه الدراسة جزءً من تحقيق سعى إلى تعلم كيفية إنشاء الذكريات وتخزينها واسترجاعها. ودفع البحث الفريق البريطاني إلى الدعوة إلى إجراء نقاش أخلاقي حول الكيفية التي قد يُستخدم بها تصوير الدماغ في المستقبل، وحول نوع الضمانات التي ينبغي وضعها لحماية خصوصية الأفراد.
أسئلة أخلاقية ونوه مدير مركز علم الأعصاب في جامعة جنيف إلى أن النقاشات الأخلاقية جارية في أوساط المهتمين بهذا العلم، وخاصة حول المسؤولية والإرادة الحرة.
وأضاف باتريك فويلوميي: "إن أكبر مسألة أخلاقية مطروحة في الوقت الراهن هي سوء الاستخدام، فهنالك خطر مبالغة الناس في تفسير ما يمكننا قياسه".
وقد سُجلت في الآونة الأخيرة حالات في الولايات المتحدة حيث طالب محامون أمام المحكمة إجراء مسح لدماغ أحد موكليهم لتقييم استجاباته العاطفية.
لكن العلم الحديث لم يصل بعد إلى تلك المرحلة، مثلما أوضح فويلوميي، نظرا لأن محدودية تكنولوجيا التصوير أدنى أساسا من تعقيد وسرعة أدمغتنا.
وقال فويلوميي في هذا الصدد: "بفضل معظم تقنيات التصوير بالرنين المغناطيسي، يمكنك قياس تغييرات الطاقة في مليمترين من البكسلات المختلفة، أو نقاط في الدماغ حيث يوجد (في كل واحدة منها) تقريبا مليون من الخلايا العصبية (Neuron)، وكل خلية عصبية يمكن أن تسهم في جانب من جوانب حالتنا الذهنية. وبالتالي فمن غير الممكن فك الرموز بدقة".
والآن، لا يستطيع الباحثون قياس سوى تغييرات بطيئة نسبيا في نشاط الدماغ – تستمر من 1 إلى 5 ثوان. ويقول فويلوميي: "إن الأفكار أسرع (انتقالا أو تحركا) بكثير".
« التطورات الأخيرة لا علاقة لها تقريبا بقراءة الأفكار »
أليكسندر مورون، أستاذ أخلاقيات الطب الحيوي بجامعة جنيف ليس بقراءة أفكار ألكسندر مورون، أستاذ أخلاقيات الطب الحيوي في جامعة جنيف، حاول أيضا طمأنة الجمهور، قائلا إن التطورات الأخيرة لا علاقة لها تقريبا بقراءة الأفكار.
وأضاف بهذا الشأن: "إن قراءة الأفكار هو ضرب من ضروب الخيال؛ فالفكرة تتمثل في تمكن آلة يوما ما من اقتحام عالمنا – أو سينمانا الداخلية – واكتشاف أفكارنا الباطنية. هذا الخيال مروع بما أن لدينا تقليد حرية التفكير التي لم يتمكن أحد بعد من المساس بها، حتى في أسوإ الأنظمة الشمولية".
كما أشار إلى أن المشكلة تكمن في أن ثقافتنا تميزت بثنائية ديكارت التي فصلت جسمنا – وعقلنا – عن روحنا، أو أفكارنا، وبالتالي بات من الصعب إبعاد أنفسنا من طريقة التفكير هذه.
وقال في الختام: "إن "نفسيتنا الشعبية"، وطريقتنا العادية في الحديث عن أفكارنا ومشاعرنا وحالتنا الذهنية وخياراتنا، هي لغة تتزايد كل البعد عن لغة علم الأعــصاب".