أيهما أكثر خيراً، ألا نقوم بفعل القتل خوفاً من عقاب الله لنا في الآخرة، أم من أجل احترام الإنسان بحد ذاته؟ أيهما الأرقى، ألا نكذب كي يحترمنا الآخرون في صورتنا التي نحرص على إظهارها لهم، أم من أجل احترامنا لأنفسنا وتصالحنا مع ذواتنا وبالتالي الحرص على عدم تضليل الآخر؟ أيهما الأفضل، ألا نسرق خوفاً من الحكم علينا بالسّجن، أم لأن السّرقة بحد ذاتها فيها أذيّة للآخر الواجب عدم إيذائه؟ هذه الأسئلة تقونا بشكل منطقي إلى السؤال عن مصدر الأخلاق بحيث يمكننا أن نطرح تساؤلاً يختصر هذه الأسئلة في سؤال واحد على الشكل التالي: أيهما الأصدق والأقرب إلى الإنسان، أنْ تصدر الأخلاق عن سلطة خارج ذاته كفرد (دينية أو اجتماعية أو بوليسية) أم تصدر الأخلاق من باطنه (عقله أو ضميره)؟ وبالتالي أيهما الأصح أن تكون الأخلاق قسْراً أم حريّة واختياراً؟ التربية الأخلاقية وما فعلته بنا: نحن في الغالب تلقينا تربية تحضّنا على الأخلاق وتحثّنا على فعل الخير وتنهانا عن فعل الشر، إلا أن هناك نقطة مهمة غفل عنها المربّون، سواء أكانوا أهلنا أم مدرسينا أم أية جهة تربوية أخرى رسمتْ لنا طريق الأخلاق، هؤلاء غفلوا كما غفل من ربّاهم هم أيضاً، غفلوا عن التفكير بخلق إنسان مبدع لأخلاقه لا متلقٍ لها. بمعنى آخر نحن تربيّنا على الطاعة والاستمرار في نهج الأخلاق المتوارث ولم نتربَّ على أن نكون أسياداً لأنفسنا، أحراراً، خالقين لأخلاقنا النابعة من صميم ذاتنا كبشر. تربّينا بطريقة تقول لنا افعلوا كذا ولا تفعلوا كذا دون أن (نفهم) لِمَ علينا أن نفعل كذا أولا نفعل كذا. تربينا على تلقي الأخلاق من مصدر معين هو خارجنا دوماً ونفعل الأخلاق لأجله لأنها أصلا من صنعه، وبالتالي تكون جلّ أفعالنا وقيمتها ليست لنا إنما من أجل المصدر الذي تلقيناها منه، فقد تكون غاية تصرفنا الأخلاقي هي الله أو المجتمع أو الشرطة أوجهة أخرى، لكن المهم أن الغاية ليست نحن كأفراد، كذوات، كضمائر ووجدانات، فنحن مثلاً تربينا على ألا نشتم أحداً من أجل ألا يقول عنا الآخرون أننا غير مهذبين، ونحن لا نأخذ شيئاً دون استئذان لأن ذلك عيب وينتقدنا الناس على هكذا تصرف، ونحن أيضاً لا نسرق خوفاً من السجن والشرطة، ولا نقدم على قتل إنسان لأن الله حرّم قتل النفس وبالتالي إذا خالفنا أوامره سنُحرم من الجنّة والنّعيم. ولكن، ألا تستحق هذه الطريقة بالتعامل مع الأخلاق وقفة طويلة؟ ألا ينهار البنيان الأخلاقي بأكمله طالما أننا نتعامل معه بهذا الشكل الانتهازي؟ يكفي أن نفكر قليلا في الأمثلة السابقة كي ندرك مدى تحطيم أخلاق كهذه لقدرات الإنسان وحريته، مدى تغييبها للعقل والضمير الإنساني، مدى سلبها لإرادة الإنسان وفرديته ، مدى الاستهانة بالتفكير وإحلال الخوف والزّجْر محله، مدى تشريد الإنسان عن ذاته ودفعه صوب سلطات خارجية، خارجة عنه تحكمه دون قيدٍ أو شرط. الأخلاق الرّكيكة الهزيلة: تعالوا نتخيل كم يكون الفرق شاسعاً بين ألا نقتل إنساناً لأننا (نضمر) في وجداننا قيمة للإنسان واحتراماً له ولكرامته، وحقه في الحياة والوجود، لأننا نضمر فينا إنساناً لا وحشاً، وبين ألا نقتل من أجل الحصول على مكافأة(رشوة) من الله هي الجنة، أو ألا نقتل خوفاً من عقاب أليم هو النار، وتصبح الغاية الأولى والأخيرة لنا من أخلاقنا المزيّفة على هذه الطريقة هي إرضاء الله خوفاً من عقابه أو طمعاً في نعيمه، فتكون علاقتنا مع الله علاقة مصلحيّة نفعيّة، هذا من جانب، ومن جانب آخر نكون بأخلاق كهذه مقللين من شأن الإنسان ومن القيمة الإنسانية بحد ذاتها غير آخذين لها بعين الاعتبار، فنصبح بذلك انتهازيين من الطراز الأول، فلا نحن متصالحين مع الله ولا متصالحين مع الإنسان. وبالمقابل حينما لا نقدِمُ على فعل شيء لا يحبذه الناس ويكون ذلك من أجل استرضاء الآخرين لا من أجل أن نكون ساعين للرقي بحد ذاته، وللسمو بأنفسنا، ومحاسبة ذواتنا، ومعرفتنا لِما لنا وما علينا، وما هي حدود حريتنا بحيث لا نخترق حريات الآخرين، فإذا كنا نمارس السلوك الأخلاقي فقط من أجل الاستحواذ على رضا الناس وإعجابهم، هكذا ستكون الأخلاق ركيكة وضعيفة بحيث أنه ما أن يذهب العامل الذي يجعلنا نتصرف على هذا النحو أو ذاك حتى يغيب سلوكنا الأخلاقي الراقي ونتصرف بوضاعة. ونحن مثلا في منطقتنا العربية قد نتصرف برقي أمام الآخرين وعلى مرأى من عيونهم لكننا حينما نكون لوحدنا نتصرف بطريقة أخرى لا تمتّ إلى الرقي بصلة، ذلك أن الرقي الذي تلقينا شكله في تربيتنا ارتبط بصورة الآخرين عنا ولم يرتبط بصورتنا عن أنفسنا وبالتالي يصبح مصدر الرقي هو الآخر الذي يجعلنا نتصرف بشكل راق، هكذا لا ينبع الرقي من داخلنا. وحينما يكون مصدر الرقي والتهذيب هو نحن وليس الآخر أو أية سلطة خارجة عنّا سنكون راقين ومهذبين سواء أكنا على مرأى من الناس أم لوحدنا، في حضور الآخرين أوفي غيابهم، هكذا لا تعود الأخلاق شرطياً يراقب تصرفاتنا وبالتالي نفعل الأفضل من أجل تجنّب عقابه لا من أجل ذاتنا ككائنات أخلاقية تمتلك وجداناً، ضميراً، وتتصرف وفق هذا الضمير الحي الممتليء إرادة. كما أننا حينما لا نسرق خوفاً من السجن، فهذا يعني ببساطة أنه في حال غياب الشرطة والسجن، سوف نلجأ إلى السرقة دون تردّد، هنا أيضاً نكون أخلاقيين فقط لأن الرّقيب موجود، لكن لو كنّا أخلاقين حقيقة بحيث تنبع الأخلاق من قناعاتنا الداخلية وفهمنا العميق للأخلاق، سوف لن نسرق بحضور السجن أو غيابه، ذلك أن الأخلاق بهذه الحالة سوف تكون قوية متماسكة، لا يثنيها عن نفسها أي مصدر خارجي، خارج الذات الإنسانية العارفة، المدركة للقيمة الأخلاقية. الفرد سيّد نفسه: إن الأخلاق التي مصدرها خارج الذات الإنسانية والتي تقسر الإنسان على التصرف وفقاً لأحكامها، تكون موضوعية بالنسبة له، لا يشعر بها، لا تلامس وجدانه، لذلك يتساهل فيها الإنسان إذا ما غاب تهديدها له، كونها غير حميميّة وغير قريبة منه فهي خارجية وبعيدة عنه، وبالتالي فإن الإنسان سوف لن يمارس الأخلاق في حال غياب مصادرها الخارجية، وإنْ مارسها سيكون ذلك ليس احتراماً لها بقدر ما يكون خوفاً من عودة مباغتة للمصدر الغائب. أما حينما تكون الأخلاق نابعة من داخل الذات، تكون قوية متماسكة، كونها تدخل في نسيج وجود الفرد الإنساني، يحياها، يعيشها، لا يتلقاها من الخارج فهو يشعر بها وبقربها وبحميميّتها بالنسبة له وبالتالي سوف لن يفرّط فيها مهما تعرّض لظروف قد تدفعه للتخلي عنها، هنا يصبح الإنسان سيّد نفسه، حاكم ذاته، يعرف ما له وما عليه، يحترم حريته ولا يتعدى على حريات الآخرين، و يدرك أنه يجب ألا تخترق خصوصيته لذلك فهولا يبادر إلى اختراق خصوصيات الآخرين أيضاً. هكذا تصبح الأخلاق في جوهرها حرية، فالأخلاق حينما تكون قسراً وتستعبد الإنسان تفقد أخلاقيتها، والإنسان كائن في جوهره حرّ ويعشق الحرية وهو يكتئب ويغضب حينما تُستأصل هذه الحرية وبالتالي تتحول الحياة كلها إلى جحيم. الأخلاق حرية، اختيار، إرادة: ونحن نستطيع أن نلاحظ الفارق بين إنسان نشأ في بيئة أصوليّة متشددة تقسره مثلا على القيام بفرائض الدين كالصوم والصلاة دون أن يكون له رغبة بذلك، وبين إنسان نشأ في بيئة حرة لا تفرض ولا تقسر، تحترم القيمة الإنسانية وحريتها، ففي الغالب يكون الإنسان الذي تربى في بيئة متزمتة هو إنسان يتوق إلى الحرية وقد يسعى إلى التحرر من تربيته الصارمة من أجل أن يصنع لنفسه خياراً خاصاً ينسجم مع ذاته التي قمِعَتْ، أو العكس قد يغرق في تربيته المتزمتة أكثر وأكثر بحيث تتولد عنده نزعة عدائية تجاه الآخر(الحر) فيرفض كلّ مَنْ لا يشبهه في الحياة. ومن هنا نرى أن الإنسان الذي تربى على الكبت والقسر، وعموماً الإنسان الذي يتلقى الأخلاق من سلطة خارجية (دينية أو بوليسية أو اجتماعية) هو الأكثر عُرْضة للانحراف الأخلاقي والجريمة وأذيّة الآخر كونه لم يتذوّق طعم الحرية أصلاً وبالتالي لا يعرف قيمتها فيستهين بحرية الآخرين ويستبيح خصوصياتهم، فهو إنسان لديه شعور عميق بالدّونية بعد أن سُلبت حريته منه ولم يعد سيد نفسه، صانعاً لأخلاقه النابعة عن ضميره الحي وعن عقله وتفكيره وهذا ما يدفعه لعدم التحكم بأفعاله وتصرفاته وضبطها تجاه الآخر وبالتالي وقوعه في مزالق اللاأخلاق. أما الإنسان الذي تربى بطريقة حرة مسؤولة فهو يعرف تماماً ماذا تعني الحرية، وماذا تعني الأخلاق النابعة عنها وهو بالتالي لا يسمح لنفسه باختراق حريات الآخرين والتعدي على خصوصياتهم أو الإتيان بأذيّة لهم على أي صعيد كان، لأنه صانعٌ لأخلاقه، سيد نفسه، وبالمقابل يعرف أن الآخرين يجب أن يكونوا أسياداً على أنفسهم أيضاً.
علا شيب الدين، (ثمّة فرديّة متوهجة تأبى القيد الأخلاقي المُستعار) عن موقع "الأوان"، (1/2010)