من سيرتي الذاتية (أقواس من سيرتي الذاتية. ط2. طولكرم: مطبعة ابن خلدون- 2011، ص 105-107)
في الثامن والعشرين من شهر أيلول سنة 1970 رحل عنا رجل أحببناه، وما زالت تعبق ذكراه، وخاصة لدى الفلسطيني الذي ظل ينعاه. إليكم ما كتبته في سيرتي الذاتية عنه:
...................................................... عبد الناصر:
كنت في الخمسينيات متحمسًا كأبناء جيلي لأفكار جمال عبد الناصر الثورية الحماسية. أنتظر خطبته وأتلهف لمضامينها، لكنني – فيما بعد- ولأسباب لغوية محضة أخذت أرفض هذه اللغة العامية على لسانه، وهذا اللحن الكثير الذي كان يشيع في خطبه؛ إذ كنت أقول في نفسي- إن ترتيب اللغة هو ترتيب أفكار، وترتيب الأفكار يترتب عليه تنظيم الواقع والإطار، وبالتالي هو تنظيم للواقع الحقيقي كما يراه صاحبه.
وكنت أتضايق لأنني لا أستطيع أن أقنع أحدًا بضرورة الاهتمام باللغة – حتى في الأمور السياسية المصيرية. كان عبد الناصر مقدسًا لدى مجتمعنا- عامة-، ولذا يحظر عليّ الدخول إلى حرمه أو حرم كلماته. ثم أخذت أشك في المبالغات، و كنت لا اقتنع بها وبما تصنع"الثورة”، وكذلك في هذين "القاهر" و” الظافر”- اللذين نراهما في التلفزيون، وهما صاروخان أثبتت الأيام أنهما وهميان.
كما كنت غاضبًا لما قام به عبد الناصر من إغلاق مضايق تيران، لأنني اعتقدت جازمًا أنه لا يستطيع أن يتحدى قوة إسرائيل وأمريكا، فأجد الجميع ممن يتحلقون حول التلفزيون يرمقونني شزرًا، بل يكيلون لي كل اتهام.
كنت على يقين أن شر الهزيمة سيلحق بنا، وهكذا كان. ..... ولكن الصدمــة العنيفة لم أتحملها، فقد كان هذا الزلزال – لا مجرد صدمة- فوق ما يمكن أن يُتوقع. كنت أرقًا قلقًا في الأيام الستة إلى حد بعيد، استمع إلى نشرة الأخبار كل نصف ساعة. وكنت أتابع الأخبار باللغة العبرية، ذلك لأنني أيقنت مدى الكذب والدجل في إعلامنا وفي إذاعاتنا العربية. وكنت- من بين القلائل جدًا- من يصدق الأخبار في الإذاعة الإسرائيلية بالعبرية، فالكل من حولي يقولون: لا تفتح على إذاعتهم، فما يروجونه دعاية، والحقيقة ستبين بعد أيام، وهي أن الجيش الإسرائيلي انهزم شر هزيمة، وسترى. ...... عندما دخل الإسرائيليون القدس بلغ قهري الزبى، وفي رحاب الأقصى أخذ الراب غورن قائد الاحتياط ينفخ البوق، ثم شرع يقرأ آيات من المزامير، فلم أتمالك نفسي من البكاء، فإذا بي أرمي بالمذياع بقوة صوب بوابة الدار لألقيه متناثرًا على مبعدة مني. (من العجيب أنه ظل يواصل إذاعته القاهرة والظافرة). ..... لا يمكن أن أنسى هنا أنني فقدت صوتي طيلة أسبوع كامل، فكنت أخاطب الناس بالإشارات وبالإيماءات، ومما زادني قهرًا وموتًا أنني استمعت من الإذاعة الإسرائيلية إلى تسجيل للرئيس عبد الناصر وهو يخاطب الملك حسين: “ أنت حتطلع بيان وحنا حنطلع بيان”!!! ولم يكن البيان إلا تمويهًا وقلبًا للهزيمة بحيث تكون انتصارًا حققته الأمة العربية الماجدة. ومع ذلك رحبت مع الجماهير الحاشدة بعودة عبد الناصر، ولم يكن يهمني في الرجل إلا الرمز. ..... حاولت الامتناع عن القدس وزيارة أقصاها، فلن أدخلها إلا محررة، ولا بد من رد هذه الإهانة، وأية إهانة؟ إذ "ظلت النكسة تذروني هزائم وتمائم" - كما قلت في قصيدة لي-. آليت على نفسي عهدًا لم أستطع الإيفاء به، فوجدت نفسي في رحاب الأقصى أصلي، وأخذت أطوّف في مكتباتها، وخاصة مكتبة المحتسب، وقد حدثتكم عن ذلك في هذا الكتاب. ..... عندما افتقدنا عبد الناصر، وأعلن نعيه كنت أستمع إلى النعي وأنا حزين. (وهل كلمة حزين تكفي؟)، بل أزعم لنفسي أنني أول من كتب له قصيدة في الرثاء، أنجزتها بعد ربع ساعة من سماع الخبر، وكتبتها على نفَس واحد، وجعلتها تحت عنوان "القصيدة الأولى في الرثاء” قلت فيها:
طافَ في كُلِّ البُيوتْ مثل روح لا تموتْ طاف في كُلِّ القُلوبْ أيُّ حُزْنٍ سَوفَ يَجتاحُ الفِراخْ؟ أيُّ رَوْعْ؟ جَفَّ دَمْعْ
أحْمَدُ اللَّهَ لأنِّي عِشْتُ في وَقْتٍ أَثيرِ عَصْرِ عِمْلاقٍ كَبيرِ ونبيُّ العَصْرِ إنسانْ يَصْنَعُ الْخَيْراتِ لليوْمِ الأَخيرِ أيُّ قَولٍ لا يَفيهْ! - كُلُّ قَوْلٍ لا يَفيهْ
هُوَ دَرْسٌ قَدْ ثَقِفْناهْ هُوَ حُبٌّ وَشَرِبْناهْ أطْفأَ الْمَوْلى الْمَنارهْ واصْطَفى الْمَوْتُ الكِرامْ ...... أقمنا في كل القرى العربية مواكب جنازات شيعنا فيها أمل الجماهير العربية عامة، والفلسطينية خاصة- الرئيس العظيم جمال عبد الناصر. كنت أسير وراء النعش دامع العينين، وما زالت نظرات غرباء كانوا يراقبون الجنازة ترمقني بغرابة. ..... ومضت الأيام. عندما كحلت عيني برؤية القاهرة في أوائل الثمانينيات كانت زيارتي لضريح عبد الناصر في سلم الأولويات، وما إن دخلنا الحجرة التي يرقد فيها، وألقينا نظرة على صورته الضخمة التي على الجدار حتى تخيلته بأبهته وقامته وعنفوانه حبيبًا قريبًا إلى القلب، وأذكر أنني حزنت، ووجمت أمام هذا الرجل العظيم. تقدم إلي الحارس، وسألني: حضرتك فلسطيني؟! نعم، وكيف عرفت؟ هذا الحب وهذا الخشوع أمام الضريح، فهو معهود فيكم. ومن العجيب أنني في زيارة لاحقة لمعرض الكتاب، وقد تسنى لي أن أقرأ من قصائدي، لاحظت أن حب عبد الناصر ليس عميقًا في قلوب المثقفين المصريين، فما إن قدمت بعض التمجيد لشخصه، وكيف أننا في الداخل نحبه و نرى فيه موئل العرب وعنوان كرامتهم، فإذا بالجمهور في القاعة يعرض عن كلماتي – بصورة أو بأخرى-، ولم أسمع أي تصفيق كما كنت أتوقع. لكن أحد محرري صحيفة (العرب) وهي صحيفة ناصرية أحب – بعد أن لاحظ اعتزازي بعبد الناصر- أن يجري معي حوارًا لمناقشة مقال كتبه عصمت سيف الدولة عن الناصرية، وقد ظنني ذلك المثقف السياسي المتابع، فاعتذرت لسببين: أولاً أنني لا أعتبر نفسي مفكرًا سياسيًا، وثانيًا لأنني لم أقرأ المقال.
وظل حب عبد الناصر في تاريخنا متجذرًاعامة فينا.