"ما يُرى من هنا لا يُرى من هناك" مقولة متداولة على لسان أحد القادة الإسرائيليّين الذي تغيّرت مواقفه حين تسنّم سدة الحكم عن مواقفه وهو خارج السُدّة، ولا بأس أن نستعيرها في مقالتنا هذه. فما يُرى عبر الإعلام في الصالونات لا يُرى عبر منظار جندي الجيش العربيّ السوريّ في الساحات، ولذا فمن الصعب الحُكم على التحركات الأخيرة التي قام بها هذا الجيش، أحببتَه أم كرهتَه، والذي خاض حتى الآن حربا لخبطت عقول كل الخبراء العسكريّين محبّين وكارهين.
هذا الجيش انسحب من العديد من المواقع، ولم يترك عناصره وحارب بشراسة لإنقاذ من تخلّف منهم لسبب أو لآخر كما حصل في مشفى جسر الشغور ونجح، وما زال يخوض مع حلفائه من المقاومة حربا في القلمون في تضاريس شبه مستحيلة وينتصر، وهذا بحدّ ذاته يجعل المقولة "ما يُرى من هنا لا يُرى من هناك" أكبر زخما، ولذا لن أذهب بعيدا تحليلا لتلك التحركات "الإنسحابيّة" وبناء الخلاصات عليها.
ولكن هذهالتحركات أو التموضع وبغض النظر عن دواعيه وأسبابه، وإن كان وبحق يقلق البعض، لم يثر مثل هذه العاصفة الهوجاء التي ثارت عندما قارب هذا التحرّك أو التموضع أكناف جبل العرب.
فلماذا؟ وهل سيضيع جبل العرب بين العمائم والياقات؟!
جبل العرب كان هدفا للحركة الصهيونيّة منذ أن حلّت في منطقتنا وفي سياقين، الأول: برنامجها الذي أسمته تحالف الأقليّات الدروز والعلويّين والموارنة واليهود وهذا معروف ومشهور، أما الثاني والأقل شهرة ومعرفة: ترحيل دروز فلسطين إلى الجبل والاستيلاء على قراهم وأملاكهم للمهاجرين اليهود مقابل دعمهم ماديّا في الاستيطان في الجبل وتعزيزا لمشروعها أعلاه. (راجع كتابي: العرب الدروز والحركة الوطنيّة الفلسطينيّة حتى ال-48، الفصلان الرابع عشر والخامس عشر)، ويكفي للدلالة الاقتباس الآتي من تقرير لإلياهوأفشتاين المسؤول حينها في القسم السياسي في الوكالة اليهوديّة والمتخصص في شؤون سوريّة ولبنان (أرشيف الهجاناة تل- أبيب المصدر رقم 5أ-8ب):
"إسكان الدروز في الأراضي المتروكة في الجبل يجلب الفائدة الاقتصاديّة ويمنع تسلط البدو عليها... سكان الجبل 70 ألفا منهم 57,764 من الدروز، 6 نسمات لكل كم مربع، يعني أخفض النسب في الاكتظاظ في أرض الانتداب الفرنسيّ وإضافة 10 آلاف درزي من أرض إسرائيل أمكانية سهلة... هذا يقوي الدروز في الجبل سياسيّا ويقوي مطالبهم في الاستقلال الذاتي...".
من نافل القول أن نقرّر أن إسرائيل هي الرابح الوحيد في المنطقة من الأزمة العاصفة اليوم بالدول العربيّة،وهي التي تفرك اليوم أكفها بهناء ما بعده هناء، والمحاولات الحثيثة التي كانت وما زالت لشقّ أبناء الشعب العربيّ السوريّ عن بعضهم البعض وعن قيادتهم هي اليوم أكثر وأخطر، والخوف الأكبر اليوم هو استغلال الواقع الجديد وتهويله لا بل تأجيجه لعلّها تُسقط في شباكها أهل الجبل، وأدواتها ممن يلبسون من نسيجها باطنا، وظاهرا "لبوس الغيرة" على أهل الجبل بحكم الانتماء المذهبيّ.
ومن باب ذكّر إن نفعت الذكرى، فقد انشغلت مراكز الأبحاث الإسرائيليّة في الأزمة السوريّة من بداياتها،وعكفت بشكل خاص على القيام بمحاولات تسليط الضوء على محتوى ومضمون الحدث السوريّ وتداعياته على الدولة العبريّة، وفي هذا السياق فقد نشر مركز (اورشليم للسياسة العامة)، ومقره القدس الغربيّة العديد من الاوراق البحثية التي حاولت بلورة رؤية محددة ازاء حركات الاحتجاج السياسي الشرق اوسطية، وعلى وجه الخصوص تلك المتعلقة بالحدث السوري.
فما هي مكانة الحدث السوري في الادراك السياسي والاستراتيجي الاسرائيلي وعلى وجه الخصوص الإدراك اليميني، الذي يمثله المركز المذكور؟
نشر المركز على موقعه الالكتروني، ورقة بحث، اعدّها البروفيسور الإسرائيلي أيالزيسر، حملت عنوان (الانتفاضة السورية، التأثيرات على إسرائيل)، ..... "وأما بالنسبة لسورية، فقد اوضح زيسر، الذي يُعتبر مرجعًا في الشؤون السوريّة بالدولة العبريّة، انّه في حالة صعود حركة الاخوان المسلمين السورية (النصرة)، فإنها سوف تدفع باتجاه ابعاد دمشق عن ايران وحزب الله اللبناني، اضافة الى انّ رموز هذه الحركة من خلال علاقاتهم مع النخب الاردنية والسعودية والنخب التركية، والامريكية والغربية الاوروبية، سوف يعملون باتجاه بناء افضل الروابط مع امريكا وبلدان اوروبا الغربية، وخلص البروفيسور زيسر الى القول انّه واذا اضفنا الى ذلك الحقيقة القائلة انّ دمشق البديلة سوف تكون هي دمشق الضعيفة، فانّ خيار صعود جماعة الاخوان المسلمين السورية هو الافضل بالنسبة لإسرائيل".
جدير بالذكر في هذا السياق الى انّه بالرغم من انّ الخبير الاسرائيليّ يُفضّل خيار استبدال سوريّة القويّة بسوريّة الضعيفة، فقد كان لافتا اعترافه بالحقيقة الاتية:
"ما زالت فعاليات الحدث السوري الاحتجاجية مقتصرة حصرا على جزء صغير محدود من المجتمع الاسلاميّ السنيّ، وليس كله، بالإضافة الى ذلك، قال انّ المجتمع الدرزي ما زال بعيدًا عن المشاركة في الاحتجاجات، وبالنسبة للمسيحيين السوريين فقد حسموا الامر لجهة خيار دعم نظام البعث القوي، وفي ما يتعلق بالأكراد، فعلى الرغم من خلافهم مع النظام الحاكم في سوريّة، فانّ السواد الاعظم منهم، اصبح حاليا، اكثر اهتماما بالوقوف بعيدا ومراقبة الامور عن كثب، وذلك عملا بالمبدأ القائل: دعنا ننتظر ونرى، على حد تعبيره.
يُشار الى انّ الموقف الذي طرحه زيسر يتساوق مع موقف رئيس الموساد السابق، مئيردغان، الذي اكد مؤخرا على انّ سقوط نظام البعث في سوريّة، هو الافضل بالنسبة للدولة العبريّة".
قديما كان إن طرأ طاريء في الجبل أو وادي التيم أو الشوف أو الجليل واستدعى طلب الدعم، يكفي أن تشعل النيران على قمة جبل شيحان في الجبل والشيخ في التيم والباروك في الشوف والجرمق في فلسطين، ليتقاطر المتطوعون خيّالة ومشاة إلى مصدر النار دون كثير تمحيص ودون تردد.
اليوم صارت التخنولوجية تقوم مقام النار، ولكن في تلك الأيام كان القيّم على إشعال النيران معروف ومحدّد، أما اليوم فكل حامل جوّال، وكل صاحب حساب على الفيسبوك، وكل محطة سفك دماء، وكلّ سياسيّ فيهم ومن خارجهم رهن نفسه للشيطان، يُشعلون النار على هواهم، فيتقاطر أصحاب عمائم ملأى بالسياسة والارتباطات إلى الاجتماعات والخطب الناريّة، وذوو ياقات منشاة في عواصم القرار إلى الشاشات، وكلّ يهد ويرعد حاسبا أن زفير الخطب سيطفيء النار التي هبّت مؤخرا عالية على جبل شيحان في الجبل.
يبزّ كل هؤلاء "قيادات" درزيّة إسرائيليّة رهنوا أنفسهم منذ أن حلّت إسرائيل وبعضهم قبل حلولها للحركة الصهيونيّة، ليروحوا يدبلجون البيانات و-"ينخّون" بسطاء الناس أن هبّوا لنجدة أخوتنا (طبعا ماديّا والله وحده يعلم إلى أين تذهب تلك الأموال التي يقتطعها البسطاء من قوت أبنائهم)، مروّجين أن إسرائيل هي المنقذ وبعد أن تخلّى النظام عن أهلنا(!).
فمتى صار هؤلاء أخوتهم ومتى صارت سيدتهم إسرائيل "فاقعة الدرّة" على دروز الجبل وهي التي تمدّ مرتكبي المجازر في حقّهم، جبهة النصرة، بكل أسباب البقاء؟! وفقط بالأمس منعت حتى التواصل معهم، وحاكمت وحكمت بالسجن الفعليّ كل من عمل على هكذا تواصل؟!
ربّما يبدو كلامي أعلاه للبعض كما "النائح في الحفل"، ولكني على يقين غير متزحزح، وحتى لا يضيع أهل الجبل بين عمائم وياقات كتلك وبالذات الإسرائيليّة، وعمائم وياقات من عندهم المرتبطة بتلك، ما لهم إلا أنفسهم ووحدتهم وأبناء شعبهم السوريّ بكلّ أشرافه من كل شريحة، وقبل كل ذلك جيشهم العربيّ السوريّ وقيادته.
الحرب العدوانيّة على سوريّة هي حرب وجود وحتى إن لم تكن كذلك بداية أو حسبها البعض أنها لم تكن كذلك، فلا هزيمة في حروب الوجود فإما النصر أو النصر، ومثل هكذا حروب هي طويلة، ولا حاجة أن يكون الإنسان خبيرا عسكريّا، ليقرّر أن في مثل هكذا حروب، المحارب بحاجة ل"راحة محارب" وبحاجة لترتيب وإعادة تموضع، والتموضع يتم عادة في الأماكن التي يأمن فيها ظهيره، والجبل لم يكن يوما إلا ظهيرا وطنيّا قوميّا.
سعيد نفاع أواسط حزيران 2015
Sa.naffaa@gmail.com